ظلت دولة قطر الخليجية الصغيرة تؤمّن نفسها بطريقتين، أولاً: الاحتفاظ بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، نابعة من توفير قاعدة لها لا يمكن الاستغناء عنها، وهي قاعدة العديد الجوية، ثانياً: تنويع هذه التبعية، وتوفير إمدادات الطاقة لمجموعة من دول العالم القوية. ويبقى أن نرى كم من الوقت يمكن أن تتحدى قطر الجاذبية الجيوسياسية في منطقتها. اكتسبت قطر بشكل دائم سمعة سيئة كجهة تتدخل لتغذية الانقسامات وتمكن المتطرفين من السيطرة على الأوضاع. جلب «الربيع العربي» معه تغييراً عميقاً في السياسة الخارجية لقطر، حيث سعت هذه الإمارة الخليجية الصغيرة بقوة لإقامة علاقات سياسية مع جميع الأطراف الإقليمية الفاعلة، ووفرت المواد، والدعم المالي والدبلوماسي، والإعلامي لجهات في سورية، وليبيا، ومصر، وكثيراً ما كان هذا الدعم القطري يتم توفيره عبر الجماعات المتطرفة. وكان أمير قطر السابق، الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، ومستشاروه أيضاً، ملتزمين بدعم وتمكين مجموعة واسعة من المتطرفين، لأنهم يعتقدون أن الوقت قد حان لـ«الإسلاميين» للعب دور في السياسة الإقليمية، ويرون أن الدعم المبكر لمثل هذه الحركات سيكون مقامرة سياسية ناجحة لقطر. لم يكن لدى الشيخ حمد أي شيء يخشاه من تمكين هذه الجماعات، إذ إن قطر، التي تتمتع بإمدادات نفطية كبيرة، وإمدادات ضخمة من الغاز، توفر لمواطنيها، والبالغ عددهم 275 ألف نسمة تقريباً، عيشاً رغيداً، ووضعاً مستقراً. وبينما هز «الربيع العربي» المنطقة بأسرها، ظلت قطر آمنة في أحضان الجيش الأميركي من دون أي مخاوف محلية تؤرقها، ثم ألقى الشيخ حمد النرد، على أمل أن يساعد دعمه ظهور نخب جديدة من الحكام في المنطقة، ليجني الامتيازات والفوائد اللاحقة. إلا أن خطته هذه فشلت مع مرور الوقت، لسببين. أولاً: أساءت نخبة قطر تقدير مدى صعوبة السيطرة على الوسطاء والمجموعات التي تدعمها. وعلى هذا النحو، ساعدت قطر - جنباً إلى جنب مع جهات أخرى دولية فاعلة ـ بشكل غير مباشر، في إذكاء أوار القتال بين جماعات وأفراد انخرطوا في سلسلة من الحروب الأهلية المنهكة، لاسيما في سورية وليبيا. وفشلت مساعي التحولات السلمية في كل مناطق «الربيع العربي»، عدا تونس. وبدلاً من ذلك، اكتسبت قطر وبشكل دائم سمعة سيئة كجهة تتدخل لتغذي الانقسام، وتمكن المتطرفين من جميع الأصناف من السيطرة على الأوضاع. ومع تفاقم الأزمات مع الدول المجاورة الثلاث لقطر (السعودية، والإمارات، والبحرين) في عام 2014، وأيضاً مع التطورات في الأسابيع الأخيرة، فتح كل ذلك المجال واسعاً أمام التكهنات بأن أمن دولة قطر محفوف بالمخاطر، خصوصاً مع تلميحات الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأن قطر دولة راعية للإرهاب. وفي خضم هذه المقاطعة السياسية، ستفقد قطر الكثير من الامتيازات، أولاً: لأن السعودية من أكثر المناطق الإقليمية نشاطاً، كما أن جبل علي في دبي بدولة الإمارات تمثل أكبر المراكز الإقليمية لإعادة التصدير في المنطقة، وتظل هاتان المنطقتان ـ جبل علي والسعودية ـ أكثر أهمية للدوحة، بسبب حجمهما وتكلفتهما وموقعهما. ثانياً: هناك حقيقة تتمثل في المعضلات اللوجستية، وهي أن استغناء الدوحة عن مسار سريع متعدد الطرق إلى السعودية واستبداله بميناء الدوحة الصغير ليس أمراً سهلاً، لأن ذلك من شأنه أن يخلق اختناقات باهظة الثمن في الإمدادات. ثالثاً: جانب قطر الصواب في سياستها الإقليمية، ففي حين تعتقد أنها في مأمن من عدم الاستقرار والتصعيد الداخلي، ظل أقرب جيرانها يشعرون بقلق بالغ إزاء تشجيعها نشر «الإسلام السياسي»، وظلت قطر تدعم هذا النوع من السياسة. وعلاوة على ذلك، دعمت قطر مباشرة الإخوان المسلمين في مصر، وأماكن أخرى في المنطقة، وظل الأمر كذلك حتى عندما تسلم الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، مقاليد الحكم في بلاده في يوليو 2013، حيث سعت قناة «الجزيرة» إلى النيل من حكومته بتغطيتها اليومية المناهضة لها. وأغضب هذا أيضاً جيران قطر، الذين يدعمون الحكومة المصرية الجديدة بشدة، انطلاقاً من الاعتقاد أن حكمها أساسي لاستقرار الشرق الأوسط بأسره. واستمعت قيادة قطر منذ فترة طويلة إلى هذه الانتقادات، لكنها نادراً ما غيرت سياستها، ورفضت مثل هذه المشاعر، واستمرت «الجزيرة» نسبياً بنمط تغطيتها نفسه من دون عوائق، وظلت تقدم نظرة ناقدة للسياسة الإقليمية، وتمنح مجالاً على أساس منتظم لأولئك الذين يدعمون المواقف المتطرفة، وشمل ذلك مقابلات مع زعيم جماعة سورية مرتبطة رسمياً بتنظيم القاعدة، وهي «جبهة النصرة». تولى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الحكم في بلاده في عام 2013، عندما تنحى والده الشيخ حمد عن السلطة. ولم يغير تميم موقف قطر، وكان يبدو عليه من الصعب القيام بذلك في البداية، وعلى كل حال فقد كان الشيخ حمد، بعد كل شيء، الرجل الذي صنع دولة قطر الحديثة. وفي غضون ثمانية أشهر من تسلمه حكم البلاد، أدرك تميم مدى غضب جيرانه، عندما سحبت في فبراير 2014 كل من السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من الدوحة، ورافق ذلك تصريحات دبلوماسية وتقارير في وسائل الإعلام العربية عن احتمال تدابير تصعيدية وخيارات قد تشمل إغلاق الحدود البرية الوحيدة لقطر، مع السعودية. كانت هذه إحدى الحلقات الصادمة جداً للدوحة. استغرقت المفاوضات تسعة أشهر، وتم التوصل إلى اتفاق في خريف عام 2014. ولم يكن أي من الطرفين سعيداً في نهاية المطاف، وتم اختصار قمة لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الدوحة في ديسمبر 2014، ونص الاتفاق على طرد كبار أعضاء جماعة الإخوان المسلمين المقيمين في قطر، ومن ناحية وافقت قطر على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، وخفض وتيرة تغطية قناة الجزيرة في ما يتعلق بمصر، ولم يكن هناك أي تغيير يذكر في سياسة قطر الخارجية بشأن ابتعادها عن دعم المتطرفين، والذي يعتبر مطلباً أساسياً. في الخامس من يونيو، اتخذت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر تدابير دبلوماسية ضد قطر، شملت مقاطعة جوية وبرية وبحرية. وكان استعداد قطر لدفع ما يصل إلى مليار دولار لإطلاق سراح صيادين قطريين احتجزوا رهائن في العراق على يد مليشيات شيعية هو القشة التي قصمت ظهر البعير. ديفيد بي روبرتس أستاذ مساعد بكلية كنج بلندن
مشاركة :