منذ تصويت بريطانيا لصالح خروجها من الاتحاد الأوروبي، نشأ جدل بين المحللين حول مصير المدينة. وقد وظف قطاع الخدمات المالية البريطاني في عام 2016 أكثر من مليون شخص (3.1 في المائة من الوظائف المتاحة في أنحاء المملكة المتحدة)، وساهم في نحو 7.2 في المائة من إجمالي القيمة المضافة للمملكة المتحدة، أي أكثر من نصف إسهام لندن. سوف يمثل أي تهديد للقطاع، ولوضع لندن ومكانتها بوصفها مركزاً مالياً عالمياً رائداً، ضربة قوية.لحسن حظ المملكة المتحدة، لن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى تآكل المزايا التي تتمتع بها لندن حاليًا؛ وربما الأهم من ذلك هو أنه لن يساعد المنافسين الأوروبيين على مراكمة مزايا مماثلة. من السهل إدراك لماذا تتصور مدن مثل باريس وفرانكفورت، أو أمستردام التي كثيرًا ما يتم ذكرها بوصفها مرشحاً توافقياً، أنها قادرة على سرقة الأعمال من لندن. من أسباب ذلك تداخل الجميع مع الأسواق الآسيوية والأميركية خلال يوم التداول والقيام بالأعمال.تعتمد لندن إلى حد كبير على تدفق المعاملات من الأسواق الأوروبية، والشركات متعددة الجنسيات البريطانية والأوروبية، ومديري الصناديق الدوليين، وشركات التأمين، وتجارة العملة العالمية والعقود الاشتقاقية. كذلك تستفيد من المعاملات، التي تتم في أماكن أخرى، وتتدفق عبر أسواق الأوراق المالية الرئيسية أو الأسواق التجارية بوجه عام. وتقوم شركة «إل سي إتش كليرنت جروب ليميتيد»، المملوكة لسوق لندن للأوراق المالية، بأكثر من 50 في المائة من مبادلات أسعار الفائدة باستخدام العملات كافة؛ وتقوم لندن بـ97 في المائة من مبادلات أسعار الفائدة بالدولار، و75 في المائة من مبادلات أسعار الفائدة باليورو. لا يوجد أي سبب لا يدعو إلى انتقال هذه الأعمال إلى مكان آخر؛ مع ذلك تتمتع لندن بمزايا متفردة مقارنة بمنافسيها؛ فاللغة الإنجليزية لغة وسيطة تستخدم في مجال المال الدولي. كذلك تحكم القوانين الإنجليزية المعاملات الدولية، وتحظى المحاكم الإنجليزية بسمعة طيبة. كذلك تحظى مؤسسات مثل مصرف إنجلترا بثقة كبيرة. من المعروف تاريخيًا أن الضرائب المنخفضة، وقوانين الشركات الجيدة، واللوائح الناجحة التي تلائم احتياجات الصناعة، من الأمور التي تزيد القوة المالية للندن.تستفيد لندن من آثار الشبكة التي تجعل الأعمال وخدمات الدعم المماثلة مثل المحامين، والمحاسبين، والاستشاريين، على مقربة من بعضهم. وتعد البنية التحتية الجيدة، والتكنولوجيا، والاتصالات، وخطوط المواصلات الملائمة مزايا رئيسية. الأهم من ذلك هو توفر القوى العاملة الماهرة التي تتمتع بالخبرات المناسبة. من المعروف تاريخيا أيضا أن لندن تعامل العمال الأجانب بكرم خاصة في قطاع الخدمات المالية، رغم أن خروجها من الاتحاد الأوروبي قد يجعل من الصعب تعيين مصرفيين أوروبيين.من الصعب رؤية فرانكفورت، أو باريس، أو أمستردام، تستوعب ثقافة مالية تحكمها اللغة الإنجليزية والقوانين الإنجليزية. سوف يحتاج تطوير البنية التحتية، والشبكات اللازمة للحفاظ على وضع البلاد بوصفها مركزاً مالياً عالمياً إلى وقت، رغم دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للأجانب إلى الانتقال إلى باريس، حيث لا تتمتع باريس أو فرانكفورت بثقافة التجارة العالمية التي تطورت على مدى قرون من التجارة في السلع والخدمات في كل من لندن وأمستردام.من الواضح مدى حرص اتحاد أوروبي مغبون على استغلال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي للحد من الهيمنة المالية للندن التي طالما لاقت ازدراء. ويعد الجدال الحالي بشأن معاملات مقاصة اليورو من الأمثلة الدالة على ذلك. بالنظر إلى أن المملكة المتحدة لم تكن يومًا جزءا من منطقة اليورو، لا يوجد سبب يمنع استمرارها في أداء دورها داراً للمقاصة. لا يوجد ما يمنع الشركات ذات الصلة من الموافقة على الالتزام بقوانين الاتحاد الأوروبي وعقوده الاشتقاقية، المدعومة بتشريعات المملكة المتحدة. يمكن للشركات المالية الموجودة في لندن الوصول إلى عملاء أوروبيين من خلال الالتزام بقواعد السوق المشتركة طبقًا للبنود المعادلة، أو من خلال إنشاء كيانات أوروبية، أو استخدام الكيانات الأوروبية الموجودة بالفعل.على مستوى أعمق، الجدال الدائر بشأن مستقبل لندن بصفتها مركزاً مالياً لا أساس له من الصحة، حيث لم يعد للمكان أهمية تذكر بفضل الأسواق العالمية، والتقدم في الوسائل التكنولوجية، والاتصالات؛ فأكثر المعاملات تتم إلكترونيا، ويعمل الأفراد عن بعد، وتتم المعاملات بين شركات وأفراد ما كان لهم أن يلتقوا إلا إلكترونيا.أكثر الشركات، التي تهيمن على مجال الخدمات المالية في المملكة المتحدة، أجنبية، ولا توجد صلة كبيرة بين كثير من المعاملات وبريطانيا. لا يتم تسجيل المعاملات في كثير من الحالات في لندن، بل في مكان آخر. كذلك لم يعد يتم القيام بكثير من المهام والوظائف في لندن، بل في أجزاء أخرى من المملكة المتحدة، أو في مناطق أخرى لتوفير المال.الواقع أن المراكز المالية نتاج تقاليد، وعادات، وشعور بالارتياح. ما يتحكم في مدى تركز الشركات المالية في عدد محدود من المدن هو العلاقات الاجتماعية، وقرب الأفراد في المجالات ذات الصلة، إلى جانب عوامل مهمة لكبار الممولين، مثل الضرائب المعقولة على الدخل الشخصي، وقبول المكافآت الكبيرة.يشمل الخليط المثالي أموراً تتعلق بنمط الحياة تؤثر على الأسر، مثل المسكن، والتعليم، والصحة، ناهيك عن قوانين الطلاق المقبولة، بالنظر إلى انتشار حالات الانفصال. من الحتمي أن يفيد أيضًا التسامح مع سادة العالم، وتلك المكافآت الضخمة.من الصعب أن تتكرر تلك الظروف. قد تواصل لندن أداء دورها التاريخي بصفتها مركزاً مالياً كبيراً، وقد لا تفعل، لكن ما تتمتع به من مزايا تنافسية أمر مهم وضروري، ولن تختفي تلك المزايا بسهولة حتى بعد خروجها العسير من الاتحاد الأوروبي.* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
مشاركة :