فنان سوري يرسم المسوخ في حاضر عنيف ومشوه بقلم: ميموزا العراوي

  • 6/30/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

فنان سوري يرسم المسوخ في حاضر عنيف ومشوه“الانتظار” هو عنوان المعرض الذي أقامه مؤخرا الفنان السوري محمد عمران في صالة “آرت أون 56 ستريت” في العاصمة اللبنانية بيروت، ليس من السهل تصنيف أعمال الفنان، وربما لا يجب ذلك، مجموعة من المنحوتات المؤلفة من مادة “الريزين” الصناعية، والرسومات المشغولة بمادة الأكريليك والحبر أنتجها الفنان بعيدا عن همّ الأساليب الفنية المتباينة التي استخدمها، هاجسه الحصري كان ولا يزال التخلّص من سلطة الانتظار والعتق من عتمة الذاكرة، ذاكرته الشخصية أولا قبل أن تكون ذاكرة الشعب السوري.العرب ميموزا العراوي [نُشر في 2017/06/30، العدد: 10677، ص(17)]أبيض وأسود غاضب بيروت – لا يستسيغ الكثير من الفنانين والنقاد على حد السواء اعتبار الفن شكلا من أشكال العلاج النفسي، لاقتناعهم بأن هذا التصنيف يحط من أهمية الموهبة والممارسة الفنية الواعية وعملية اكتساب وتعلّم تقنيات متعددة لخدمتهما. وفي هذا السياق قد يفيد القول بضرورة عدم الفصل بين الفن الذي يُستخدم كعلاج والفن الاحترافي الذي يتطلب موهبة وجهدا شخصيا، وذلك لسبب واحد وجليّ مفاده أن كل فن هو بمطلقه شكل من أشكال العلاج النفسي، وهذا لم ولن يحط يوما من قدره. ليس كون الفن علاجيا أم لا؟ هو ما يحدد قيمته ومكانته على الساحة الفنية، بل قدرته على التعبير بشكل لافت وبلاغة توظيفه للأفكار المُحركة له، هذا الكلام ينطبق كليا على فن التشكيلي السوري محمد عمران في معرضه الأخير المعنون بـ”الانتظار” والذي أقامته مؤخرا صالة “آرت أون 56 ستريت” البيروتية. عمران يُدرك تماما أن ما يُنتجه من أعمال فنية -أنتجت غالبيتها ما بين سنة 2015 و2017- هو شكل من أشكال التخلص من مخاوف وضغوط رافقته منذ أن كان صغيرا، هو وشريحة كبيرة جدا من الشعب السوري. ولعل فنه أصدق تعبير عن هذه الطاقة الكامنة التي تعتمل وتتخمر جيدا عن وعي ولاوعي على حد السواء قبل أن تخرج إلى العلن في شكل أعمال نابضة بالحياة وبتميّز فني غير آبه بأي تصنيف قد يُطلق عليه من قبل النقاد الفنيين أو المُتلقين لأعماله. عمل فني مارسه بكل شغف خاصة عندما تحرر من مخاوف التعبير ونتائجه الوخيمة الحتمية، لأنها قبل كل شيء تمحورت حول انتقاد الحالة السياسية والاجتماعية التي عرفتها سوريا قبل اندلاع الثورة بكثير، من خلال شخصية واحدة ألقت بظلها المرعب على محمد عمران منذ صغره. ذكر الفنان في أكثر من مرة، كيف أن ملامح تلك الشخصية وهيئة وجهها ساعدتا كثيرا في تكوينه لرسومات ومنحوتات فنية لم يملّ الفنان حتى الآن من استحضارها، كمن يستحضر شبحا من الماضي بغية تحقيق مساءلة مُلحة وتصفية شؤون عالقة معه “بالتي هي أحسن”. ونرى جليا في المعرض كيف تجلس شخوص الفنان المُتشابهة، المنحوتة والمرسومة على حد السواء متصلبة وهادئة في قمة تشنجها أمام طاغية واحد تكاثر في أشكال ووضعيات مُختلفة. وانطلقت شهرة محمد عمران الفنية في سنة 2011 عندما شارك في معرض فني في “ليون أوروبيت غاليري والمركز الثقافي الإسلامي في باريس”، ومن ثم تتالت المعارض في مدينة بوردو الفرنسية فمدينة برلين الألمانية، وبعد ذلك في بيروت وكوبنهاغن لتدخل مجموعة من أعماله إلى المتحف البريطاني. ولم يرتو الفنان السوري حتى الآن، أي حتى هذا المعرض الفردي الأخير الذي أقامه في بيروت، من تفريغ شحنات غضبه المكتوم في أعمال فنية جريئة تأرجحت في ما يشبه هذيانا فنيا ما بين رسومات كاريكاتيرية لاذعة وتشكيل فني مرّ مذاقه ومُنفذ خاصة بلوني الأبيض والأسود. على طاولة، وضع الفنان في الصالة الرئيسية مجموعة نحتية من مادة “الريزين” لشخوص أكبرها لا يفوق العشرة سنتيمترات، توليفة بصرية تذكر بشكل قاطع بلعبة وشخوص الشطرنج، بإمكان أي زائر كان أن يتلهّى بتحريكها كما يريد، تحدق تلك الشخوص أمامها في الفراغ المشحون بتفاصيل موت بطيء يمضي دون أدنى جلبة.منحوتات لأشكال بشرية "مينيمالية" اثنا عشر نموذجا بشريا من “الريزين” نحتها الفنان سنة 2016 مدركا حينها أنه سيستطيع أن يخربط ما بينها ويعيد توضيبها وتجميعها مستقبلا كل مرة كيفما يشاء، تماما كما يفعل الطفل الغارق في عالمه الخيالي والمشغول بتأليف سيناريوهات لا يعلم بها إلاّ هو. منحوتات لأشكال بشرية “مينيمالية” تبدو جالسة على كراس تماهت معها لشدة ولطول ما جلست عليها، تبدو وكأنها تنتظر على حافة علوّ شاهق من يطلق عليها رصاصة الرحمة أو من يسلخها عن واقع ضرب جذوره بعيدا في نفوسها، دون أن يؤدي فعل السلخ إلى جعلها أشلاء غير مؤهلة بعد ذلك حتى لفعل الانتظار. انتقلت شخوص الفنان المنحوتة في المعرض إلى لوحات في حيز آخر من الصالة لتتسم بملامح مخيفة يختلط فيها الإنساني بالحيواني، الشيطاني بالملائكي المُنتظر للحظة قدرية ما ترفعه بعيدا عن هول الواقع المصبوغ بلون الدم. نوع من التطهير عبر ممارسة الفن؟ قد يكون في ذلك الكثير من الحقيقة، نوع من ممارسة سحر “الفودو”، ربما؟ لا يهم إن كان هناك شبه كبير بين الممارستين الفنية و”السحرية”، الحصيلة هي مجموعة من الأعمال الفنية النافرة والصادقة تنطق بعمق الأثر الذي تركته تلك الشخصية المرعبة وشكل جمجمتها العريضة والنافرة ليس فقط على الفنان، بل على أجيال تتالت. معرض الفنان السوري محمد عمران هو عمل تجهيزي تفاعلي له سمات مستنقع أصمّ بات فيه فعل الانتظار فعلا عبثيا. لكن، بالرغم من ذلك يبقى التشنج بين الشخوص وهامة الطاغية، المتحولة كمحلول لونيّ كثيف ومُتسخ على صفحة ذاك المُستنقع، حالة ضرورية للاستمرار والانتظار الذي بات مع مرور الزمن شكلا من أشكال الحياة العادية.

مشاركة :