أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور فيصل غزاوي، المسلمين بعبادة الله عز وجل حق عبادته وتقواه، واتباع أوامره واجتناب نواهيه ابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى. وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم: يقول الله جل ثناؤه في مُحكم التنزيل: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}؛ فهذا البيان الرباني والتقرير الإلهي يؤكد لنا أن الغاية من خلق الجن والإنس والعلة التي أوجد الله الخلق من أجلها هي العبادة؛ إذ حصر عز وجل الحكمة من خلق المكلفين في إرادته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وهذا ما بعث الله به جميع الرسل؛ فدعوا أقوامهم إليه {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}. وأضاف: من البديهيات أن يعرف كل منا الحكمة التي من أجلها خلقه الله، وما هي العبادة التي أرادها الله منا؟ وما مفهومها في الإسلام؟ وهل هو ما يعتقده بعض الناس من مجرد أداء الصلاة والزكاة والصيام والحج فقط؟ وأردف: لقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء، والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة، وكذلك حب الله ورسوله، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضاء بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك؛ هي من العبادات لله". وقال "الغزاوي": غاية الوجود الإنساني كله محصورة في العبادة، لا تتعداها إلى شيء غيرها على الإطلاق؛ بمعنى أنها تستغرق حياة المسلم جميعها؛ بدليل قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين}؛ فالإسلام هو الحياة؛ فلا بد أن يشمل كل مناحي الحياة ولا يقتصر على جانب دون جانب. ودعا إلى تصحيح المفهوم الخاطئ للعبادة الذي يقصرها على بعض الطاعات والأفعال والفرائض؛ فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها؛ فهي عبادة؛ فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة؛ بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء عبادة، وحسن العشرة والأخوة في الله، والصدق في الحديث والمغفرة للآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية. وأضاف إمام وخطيب المسجد الحرام: إذا أردنا أن نجلي خطأ من يعتقد تضييق نطاق العبادة؛ فلننظر كم تستغرق هذه الشعائر التعبدية من اليوم والليلة ومن عمر الإنسان؛ فالصلاة تأخذ جزءاً من اليوم والليلة، والصيام شهر واحد من السنة، والزكاة تكون في حق من تجب عليه بشروطها مرة في كل عام، والحج لمن استطاع إليه سبيلاً مرة واحدة في العمر يؤدى في أيام قليلة؛ إذاً فما النسبة بين الوقت الذي تأخذه هذه الشعائر وبين عمر الإنسان؟ إنها نسبة يسيرة لا تُذكر فهل يستطيع المسلم أن يقضي واجب العبادة المفروض بالشعائر التعبدية وقد تَقَرّر أن العبادة تستغرق حياة المسلم جميعها. وأردف: عندما يتسع مفهوم العبادة في حسّ المسلم؛ يعلم أن الأعمال الصالحة عموماً، والتي لم تُصبغ بصيغة تعبدية بحتة؛ يمكن أن تتحول إلى عبادة؛ وذلك بإصلاح النية لله تعالى، وابتغاء مرضاته بذلك الفعل؛ فقد جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس، يعدل بين الاثنين صدقة، ويعين الرجل على دابته فيحمل عليها أو يرفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة يخطوها إلى الصلاة صدقة، ويميط الأذى عن الطريق صدقة" متفق عليه. وتابع: طلب الرزق والكسب والسعي على النفس والرعية من العبادات العظيمة التي يؤجر عليها صاحبها إذا كان متبعاً فيه الشرع، ناوياً من ورائه مقصداً شريفاً؛ فعن كعب بن عجرة قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فرأى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من جلده ونشاطه فقالوا: يا رسول الله لو كان هذا في سبيل الله؛ فقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان خرج يسعى على ولده صغاراً فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى رياء وتفاخراً فهو في سبيل الشيطان). رواه الطبراني. ولفت إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن المباحات للمسلم قد تصير طاعة يثاب عليها؛ فالأعمال الغريزية قد تصبح عبادة بالنية الصالحة، ويؤجر عليها المرء؛ فقد جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وفي بُضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر). رواه مسلم. وقال: إن دل هذا على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات؛ فإتيان الرجل أهله تكون عبادة إذا نوى بها قضاء حق الزوجة، ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به، أو طلب ولد صالح، أو إعفاف نفسه، أو إعفاف الزوجة ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام، أو الفكر فيه، أو الهم به، أو غير ذلك من المقاصد الصالحة؛ بل جاء في الحديث بيان أن ما يجعله الرجل في فم امرأته يؤجر عليه؛ فقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زار سعد بن أبي وقاص قبل وفاته قال له: (ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجرت بها، حتى اللقمة تجعلها في فم امرأتك). رواه مسلم. وبيّن فضيلته أن مرجعنا في فهم معنى العبادة هو الكتاب والسنة، والصورة التطبيقية لذلك هم الصحابة الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين أدركوا معنى (وما خلقت الجن والإنس إلا يعبدون)، وفهموا من ذلك أن العبادة غاية الوجود الإنساني؛ فيقوم المسلم بالعبادة وهو يمارس الحياة في شتى المجالات، وأن الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج هي أساس العبادة والركائز الأساسية في الدين؛ ولكن ليست هي العبادة فقط بل هي محطات تزود تعينهم على أداء بقية العبادة التي تستغرق حياتهم وفهمهم الحقيقي لمعنى العبادة، جعل إحساسهم بواجبهم في العمل كواجبهم في الصلاة، كإحساسهم بضرورة الزواج وطلب الرزق وطلب العلم وعمارة الأرض. وأضاف أن الفكر الذي يدعو إلى فصل الدين عن الحياة أثّر على كثير من الناس فأخرجوا العبادة عن جوانب الحياة المختلقة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها، وصاروا يرون أن العبادة تمارس في المسجد؛ أما إذا كان في الأعمال الدنيوية فلا علاقة للدين بذلك؛ حتى إن بعض الناس ينظر إلى الشعائر التعبدية على أنها هي كل العبادة المطلوبة من المسلم، وأنه إذا أداها فقد أدى كل ما عليه من العبادة ولم يعد لأحد أن يطالبه بالمزيد؛ فإذا قام أحد بواجب النصيحة تجاهه ونهاه عن ارتكاب المنكرات قال: يا أخي ماذا تريد منا فقد صلينا وزكينا وصمنا وحججنا؛ وهذا من أعظم الانحرافات في تصور مفهوم العبادة. وأوضح الشيخ الدكتور "غزاوي"، أنه يجب على المرء أن يواصل سيره إلى ربه ويصدق في عمله مع الله، وأن يلتزم بشرعه دائماً ولا يربط عبادته لله بزمن أو مكان أو أشخاص؛ بل يبقى صادقاً ثابتاً على دين الله على كل حال؛ فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه يعلّم الصحابة الكرام درساً في الاستقامة إذ قام خطيباً بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: "ألا مَن كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم؛ فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبدالله فإن الله حي لا يموت، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون}، وقال: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}". وأردف: هكذا يتربى العظماء على هذا المبدأ، قال عروة رحمه الله: بلغنا أن الناس بكوا على النبي صلى الله عليه وسلم حين مات، وقالوا: "والله لوددنا أنا متنا قبله نخشى أن نفتتن بعده. فقال معن بن عدي: لكني والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتاً كما صدقته حياً". وحذّر "غزاوي" من إفساد الأعمال الصالحة بالرجوع إلى المعاصي؛ مستشهداً بقوله تعالى محذراً لنا: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً}؛ فهذه المرأة البلهاء الخرقاء كان من شأنها أن تغزل الصوف في أول النهار؛ حتى إذا أوشكت على إتمام غزلها آخر النهار نقضت غزلها وأفسدته، ثم عادت إلى الغزل والنقض مرة أخرى؛ فحذر الله من التشبه بصنيعها؛ وذلك بإفساد الأعمال الصالحة بأعمال سيئة تنقضها وتذهب بركتها.
مشاركة :