آينشتاين يسأل وفرويد يجيب: هل من سبيل لتجنب الحرب بقلم: أشرف أبواليزيد

  • 7/1/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

آينشتاين يسأل وفرويد يجيب: هل من سبيل لتجنب الحربرغم تعدّد مدارس علم النّفس واختلاف المقاربات المعرفيّة التي تتصدّى للإشكالات التي يقترحها، فإنّ موقع سيغموند فرويد يظلّ فريدا وأساسيّا إزاء هذه المدارس والمقاربات الصّادرة عنها. وحتّى مع النّقد الذي تمّ توجيهه إلى فرويد سواء من قبل أولئك الذين تأثّروا به ثمّ حاولوا تجاوزه على غرار كارل غوستاف يونغ مثلا أم الذين انتموا إلى توجّهات مغايرة وتخصّصات أخرى كالفلسفة والأنثروبولوجيا، فإنّ العودة إلى منجزه النّظريّ الذي تعدّد فلامس مجالات كثيرة من بينها النّقد الأدبيّ ودراسة التّاريخ الفنّيّ وعلم الاجتماع، تظلّ ذات أهمّيّة بالغة.العرب أشرف أبواليزيد [نُشر في 2017/07/01، العدد: 10678، ص(16)]فرويد أكثر المفكرين جدلا إلى اليوم من بين أطروحات سيغموند فرويد ما يظلّ راهنا إلى اليوم ومن بينها ما يحتاج إلى المزيد من التّفهّم والنّظر حتّى من جهة نقدها وتطويرها أو تفنيدها. ولعلّ القارئ العربيّ أحوج من غيره إلى هذا إذ قلّما قرأ هذا العالم في ترجمة محكمة عن اللسان الألمانيّ مباشرة. وهذا ما قام به الرّوائيّ العراقيّ الذي أقام بألمانيا وتوفّي حديثا، حسين الموزاني في كتاب نشر مؤخّرا عن دار الجمل موسوما بـ “الغريزة والثّقافة”. يتضمّن الكتابُ عشرة مقالاتٍ منتخبةٍ تنوّعت مواضيعها من الممارسات القسريّة والشّعائر الدّينيّة إلى مسائل جنسيّة مختلفة ومسائل أخرى تتعلّق بالشّاعر والخيال والحزن والكآبة. كما اختتمت المقالات برسالتين كانت الأولى موجّهة بسؤال عن الحرب والعنف في المجتمع البشريّ من قبل الفيزيائيّ ألبرت آينشتاين إلى سيغموند فرويد. وتلتها في ختام الكتاب الإجابة المطوّلة لعالم النّفس. قارئ الاستعارات هناك نقطة طريفة تتعلّق بالعلوم الإنسانيّة وقد تشمل علوما أخرى ربّما. لكن يندر التّطرّق إليها. وتتمثّل هذه النّقطة في تأوُّلِ الظّواهر الإنسانيّة من قبل الباحثين على نحوٍ يذكّرنا بتأوّل الشّعر والنّصوص الأدبيّة. يذكر الباحث الأميركيّ كليفورد غيرتز في هذا السّياق، وفي معرض حديثه عن طبيعة منهجه المستحدَث في مجال الأنثروبولوجيا العرفانيّة التّأويليّة، أنّه بوصفه طالبا سابقا في صفّ النّقد الأدبيّ، يعتمد تأويل الاستعارات التي يقترحها الواقع مثلما يقوم النّاقد الأدبيّ أو القارئ عموما بتأويل استعارات نصّ مّا وصولا إلى المتصوّرات العرفانيّة الكامنة فيها. إنّ ما يطرحه غيرتز يبدو جليّا في مقالات فرويد. ومثلما يستقرأ كليفورد عراك الدّيكة بوصفه استعارة تكنّي دلالة الفحولة عند ممارسي هذا النّشاط، ويلجأ إلى برهنة مطوّلة لشرح ذلك، فإنّ مؤسّس علم النّفس يقدّم أمثلة عن سلوكات الوسواس القهريّ مثلا ويتأوّلها مستنطقا دلالاتها الكامنة. إنّه ينظر إليها بوصفها تمثيلات رمزيّة تحتاج إلى التّأويل حتّى تمنح سرّها. “ يدرك المرء بأنّ الممارسات القسريّة تنطوي على معنى عامّ في جميع تفاصيلها. وتقف في خدمة المصالح الأساسيّة للشّخصيّة وتعبّر عن معايشات متواصلة التّأثير وعن أفكار مليئة بالانفعالات على حدّ سواء. وهي تقوم بذلك عبر طريقتين، تكون واحدة منها مباشرة، بينما تأتي الأخرى على شكل تمثيلات رمزيّة، فتفسّر وفقا لذلك إمّا تاريخيّا أو رمزيّا”. وعلى هذا النّحو، يمضي فرويد مقدّما الأمثلة ومفكّكا دلالاتها الرّمزيّة كما لو أنّ عالم الإنسان نسيج نصّيّ يشكّل فيه السّلوك أو الشّيء علامة لغويّة أو رمزيّة بشكل عامّ. فيرى في تمسّك امرأة انفصلت عن زوجها بالجلوس على كرسيّ محدّد دلالة الرّجل الكامنة في الكرسيّ. ويعلّل ذلك بعبارة “قالتها (المرأة) وهي أنّ المرء لا ينفصل عن رجل، كرسيّ جلس عليه ذات يوم”. لكنّ فرويد يبدو مغاليا أحيانا في سرعة التّسليم لتأويل مّا -قد يكون مرغوبا فيه أحيانا- بالصّحّة. مقالات تنوعت مواضيعها من الممارسات القسرية والشعائر الدينية إلى مسائل جنسية وأخرى تتعلق بالشاعر والحزن وكما نعلم فإنّ نشاط التّدلال يظلّ مفتوحا وواسعا إلاّ إذا كان انتخاب تأويل ممكن دون آخر قائما على نظام تعليليّ رصين ومتماسك. ويزداد النّظر إلى حدود الطّريقة التي يعتمدها فرويد أحيانا في استخلاص نتائجه وجاهةً إذا ما توقّفنا عند بعض الملاحظات التي يسوقها مبرّرا تسرّعه أو غياب البرهنة العلميّة الرّصينة. إذ يقول مثلا في مقال “كاترينا” “لا اعتراض لديّ على من يرى في قصّة هذا المرض حالةً من الهستيريا وتمّ حلّها بالحدس والتّخمين، وعبر التّحليل النّفسيّ بدرجة أقلّ”. ويسرد فرويد في هذا المقال حالة طبيّة لمريضة تدعى كاترينا. وبالإضافة إلى أدبيّة السّرد المريبة بعض الشّيء، والتي تمّ وفقها تنسيق طبيعة اللّقاء والانطلاق في معالجة المريضة، فإنّه من اللافت أن تذيّل الصّفحة الأخيرة من الحكاية ملاحظة تفيد بأنّ فرويد قد غيّر عاملا مركزيّا في الحكاية بعد سنوات طويلة، ليصبح مغتصب كاترينا أباها بعد أن كان زوج خالتها في الصّيغة الأولى من الحكاية. يقول فرويد معلّقا على إضافته ومبرّرا “أستطيع الآن رفع السّرّيّة والكتمان (…) ولا بدّ من تفادي هذا التّحريف الذي قمتُ به في حالة سرد قصّة المرض، لأنّ هذا بالطّبع ليس أمرا عديم الأهمّيّة. وكما لو أنّنا نقوم بنقل الحدث من جبل إلى جبل آخر”. أيكون محضَ صدفةٍ أنّ هذا التّغيير اللاّحق يجعل من القصّة متوافقة مع نظريّة فرويد عن اللّيبيدو وعقدتي أوديب وإلكترا؟ الرد على آينشتاين بالإضافة إلى المقالات التّحليليّة التي توجّه إلى مختصّ علم النّفس أو غيره من المهتمّين بهذا المجال المعرفيّ، فقد حضرت رسالة فرويد الموجّهة إلى ألبرت آينشتاين بوصفها عنصرا آخر طريفا في الكتاب ومتّصلا بسياق الأحداث العامّة في مجتمعاتنا. ويستجيب فرويد في هذه الرّسالة لرغبة ألبرت في أن يستعرض قضيّة الحيلولة دون قيام الحرب من وجهة نظر علم النّفس. فيتطرّق إلى مسألة العلاقة بين القانون والسّلطة والعنف. ويمضي مسترجعا سياق تطوّر الحيوان البشريّ وتبدّل أشكال تصريفه لهذا العنف وكيفيّة ظهور القانون وعلاقته بإرادة الأفراد والمجتمعات. وفي هذه الرّسالة تبدو لنا مجدّدا موسوعيّة هذا العالم الذي ظلّ واحدا من بين أكثر من أثاروا الجدل في أوساط المثقّفين والباحثين وعامّة النّاس على حدّ سواء. فبين من يراه عبقريّا استثنائيّا وبين من يفنّد أطروحاته أو يعتبر أغلبها منتحلا أو مكتفيا بتأويل نصوص أدبيّة هي الأساطير اليونانيّة القديمة، يظلّ سيغموند نقطة متوهّجة في تاريخ العلم والمعرفة الإنسانيّين وسؤالا منفتحا على الدّوام.

مشاركة :