رواية الوشم الأبيض تحكي معاناة المغتربين خارج أوطانهم من خلال علاقة عجيبة تربط طبيبا نفسيا بأحد مرضاه في كندا.العرب سامح الخطيب [نُشر في 2017/07/01، العدد: 10678، ص(15)]غربة الجسد عن الوطن والنفس عن محيطها القاهرة - تتناول رواية “الوشم الأبيض” للطبيب والروائي أسامة علام، بشكل أساسي قضية “الغربة” بشقيها غربة الجسد عن الوطن وغربة النفس عن محيطها، إلا أن العمل الأدبي يأتي محملا بعدد من القضايا التي تستحق التوقف أمامها وتأملها مثل العنصرية والمثلية الجنسية والاعتقاد في تناسخ الأرواح. تبدأ الرواية، الصادرة عن دار الشروق في القاهرة، في مدينة مونتريال بمقاطعة كيبيك في كندا لبطلها أشرف مبروك حسن المدني طبيب الأمراض النفسية بمستشفى رويال فيكتوريا، وهو طبيب مصري يحمل أيضا الجنسية الكندية. يلقي القدر في طريق أشرف بمريض استثنائي يدعى جون سبيستيان أندريه، مصاب بالفصام وارتبطت سيرته بحكاية سيئة بين الأطباء النفسيين، فكل الأطباء الذين تناولوا ملفه من قبل ماتوا منتحرين. الملفت للنظر أن أندريه نفسه يخرج من حالته المرضية مباشرة بعد إعلان خبر وفاة طبيبه المعالج، ليفتتح محل الوشم الذي يمتلكه، ويبدأ حياة عادية تماما. في أول لقاء بين الاثنين يحاول جون سبيستيان أندريه أن يقنع أشرف بأنهما كانا زميلين في عصابة شهيرة في فرنسا في القرن الثامن عشر، وأن روح أشرف نفسه ليست سوى روح قديمة تسكن جسد ذلك الطبيب، وأنه سيساعده على تذكر كل الحيوات السابقة التي عاشها متنقلا من جسد إلى جسد حتى التقيا مجددا. يتعامل أشرف مع حديث مريضه بشكل تقليدي اعتاد عليه مع مثل هذه الحالات لولا ظهور الفتاة السمراء مود بيير الطالبة بكلية الطب، التي تذهب إلى بيت الطبيب وتطلعه على وشم أبيض على جسدها لأفعى يمتد من رقبتها إلى قدميها رسمه لها جون سبيستيان أندريه، وتقول إنه منذ وضع وشمه على جسدها وهو يتحكم فيها عن بعد، ويدفعها إلى فعل بعض الأمور حتى وهو حبيس المستشفى. تتفرع من لقاء أشرف والفتاة السمراء حكايات جديدة تأخذنا إلى أعماق المجتمع الكندي ونظرته إلى الأفارقة والتمييز بين أصحاب البشرة البيضاء ودونهم من العرقيات الأخرى، وكذلك المثلية الجنسية متجسدة في والد مود بيير الذي أجرى عملية تحويل جنس ليصبح السيدة كارما، التي تضطر إلى العيش في حي للمثليين جنسيا هربا من نفور زملاء الماضي الذين لم يتقبلوا هذا التغيير. ووسط هذه القضايا المتفرعة تنبت قصة حب بين أشرف الأربعيني والفتاة السمراء العشرينية التي ينقاد خلفها ناسيا كل الصراعات النفسية التي أرهقته منذ وطأ كندا، مثل افتقاده لوطنه وأسرته، ودأبه في إثبات ذاته وسط مجتمع جديد لا يعترف سوى بالكفاءة والمهارة في العمل لقبول الآخر. تتوج قصة حب أشرف ومود بليلة حميمية في كوخ بقرية نائية فوق جبل جليدي لا يعكرها سوى جون سيبستيان أندريه الذي يظهر ويختفي في لمح البصر ليكتشف أشرف فجأة أن مود ماتت بين يديه وكأن ذلك الشبح ظهر ليخطف روحها ويرحل. تنتهي رحلة أشرف القصيرة مع مود لتبدأ رحلته الأطول والأصعب مع نفسه، فقد تركته حكاية هذه الفتاة السمراء ومريضه الاستثنائي الذي غادر المستشفى بعد شفائه في حالة سيئة، لم تخرجه منها سوى رسالة أبيه الراحل الذي حملها معه منذ وصوله إلى كندا قبل سنوات وكان يخشى دوما قراءتها. تعود بنا رسالة الأب إلى مصر وتحديدا واحة سيوة في الصحراء الغربية، لتعود معها مجددا قضية الرواية الأساسية “الغربة” التي عانى منها الأب أيضا، ولكن على مراحل أطول. يعلم أشرف من الرسالة أن والده فقد الأب مبكرا ثم الأم وعاش أحداثا متلاطمة قبل أن تلفظه قريته وتنفيه بعيدا، ويضطر إلى البدء من جديد في أرض جديدة التقى فيها بزوجته الثانية التي أنجب منها أشرف بعد حرمانه من أسرته الأولى التي كونها في سيوة. يجد أشرف في رسالة أبيه الراحل العزاء والراحة والتفسير للمعاملة الجافة التي كان يلقاها منه في الصغر، فيسامحه ويبدأ في مرحلة تكيف جديدة مع مجتمعه الغربي رغم بقاء الشعور بالغربة. يقول “ربما الآن بعد أن تخطيت عتبة الأربعين، أتذكر كثيرا من شخصيات عوالم طفولتي كظلال باهتة تحاول دائما الهرب من ملاحقة ذاكرتي. المدهش أنه بمرور سنوات العمر ترسخ لدي الشعور بأن كثيرين ممن أقابلهم في حياتي قد قابلتهم في خيالات طفولتي، أو أننا ربما تقابلنا في أزمنة أخرى”. كما نجده يقر في النهاية “كنت أيضا على يقين بقدري وقدر جدودي الأوائل في عالم الهجرة. تتساقط دموعي عند مشاهدة البرامج التلفزيونية عن المغتربين وحكاياتهم”. وأسامة علام طبيب وروائي يحمل الجنسيتين المصرية والكندية. وصدرت له من قبل ثلاث روايات هي “واحة الزهور السوداء” و”الاختفاء العجيب لرجل مدهش” و”تولوز”، كما فازت مجموعته القصصية الوحيدة “قهوة صباحية على مقهى باريسي” بجائزة غسان كنفاني عن الصالون الأندلسي بمونتريال.
مشاركة :