الإبداع والسياسات الثقافية في العصر الرقمي

  • 7/3/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

بقدر ما أكدت وجهات نظر المشاركين في «منتدى حقوق الإنسان»، الذي نُظّم، للسنة السادسة على التوالي، في إطار فعاليات الدورة العشرين لـ«مهرجان كناوة وموسيقى العالم» بالصويرة، بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، أن الانخراط في الثورة الرقمية، والاستفادة من مزاياها الكثيرة، يبقى ضرورة حتمية، أظهرت تبايناً في التعاطي مع الأسئلة التي يثيرها موضوع «الإبداع والسياسات الثقافية في العصر الرقمي»، حيث تراوحت المواقف بين الترحيب والتوجس مما يقترحه العصر الرقمي من آفاق، بقدر ما تحرض على حرية الإبداع وتحقيق التفاعل، تثير أسئلة لا متناهية بصدد القدرة على ضبط مجهول المستقبل والتحكم في سرعة التطور الرقمي.وتطرق النقاش، الذي تواصل على مدى يومين، لإشكاليات على قدر كبير من الراهنية، بالانكباب على فهم الروابط بين المجال الرقمي والثقافة، خصوصاً بعد أن بات العالم الرقمي يزحف على ميدان الثقافة، فأصبح الإبداع الثقافي، كباقي قطاعات الحياة العامة، يمر عبر المجال الرقمي، مما يفرض على الجميع طرقاً جديدة للقراءة والاستماع والمشاهدة والاستهلاك.وانطلق المشاركون، في نقاشاتهم، من مؤشرات تؤكد غزو المجال الرقمي لحياتنا بجلاء، جاء فيها: «أطلقت شركة (غوغل)، منذ بضع سنوات، مشروعاً ضخما يرمي إلى القيام برقمنة عالية الجودة لـ57 ألف عمل فني بارز، مستمد من 230 متحفاً من المتاحف المرموقة في العالم. وأنشأت شركة (أمازون) سنة 2013 منصة رقمية مخصصة لبيع الأعمال الفنية، تضم إجمالاً 40 ألف عمل فني من 150 رواقاً دولياً، كلها معروضة للبيع بمجرد ضغطة زر. كما أضحت متاحف عالمية كبرى، مثل (مو ما) - متحف الفن الحديث بالولايات المتحدة - تعتمد استراتيجيات رقمية وتوظف مسؤولين عن تدبير المنصات الرقمية وعن التواصل الرقمي وتقيم رواقات افتراضية، إلخ. وهناك حالياً في فرنسا 100 ألف عمل أدبي رقمي متوفر. بهذا، يكون العالم الرقمي قد بات يزحف على ميدان الثقافة أيضاً، حيث أصبح الإبداع الثقافي، شأنه شأن باقي قطاعات الحياة العامة الأخرى، يمر عبر المجال الرقمي، مما يفرض على شكل الثورة الوحيدة الجميع طرقاً جديدة للقراءة والاستماع والمشاهدة والاستهلاك».لذلك، وجد المتدخلون أنفسهم أمام أسئلة تتناول المجال الرقمي، وإن كان يؤدي إلى سبل جديدة لتحريك المشاعر والتأثير، والمساءلة وتمرير رسالة سياسية، اجتماعية أو فنية، وبالتالي إن كان يشكل فرصة مواتية للإبداع الفني أم تهديداً له، بحيث يقضي على الأشكال الحالية للثقافة التقليدية، وعن المعنى الذي بات للبرمجة الفنية في زمن يسوده مبدأ التواصل في أي وقت وأي مكان وبأي جهاز، وإن كان المجال الرقمي يسمح بهوامش أكبر للحرية ويمنح للأقليات والمجموعات الهشة فضاءات جديدة للتعبير وللبروز، وصولاً إلى سؤال مسؤولية السلطات العمومية وباقي الجهات الفاعلة في الحقل الثقافي، وكيف ينبغي لها أن تكون في ظل هذا السياق الجديد؟!وتفرعت مجالات التدخل إلى أربعة محاور، بمشاركة متدخلين من المغرب ومصر وفلسطين وفرنسا والسنغال والنرويج وبلجيكا ولبنان، شملت «الفنون الحية: النشر، السينما، الموسيقى... ماذا يتغير مع المجال الرقمي؟»، و«المجال الرقمي في خدمة التنوع»، و«نحو بروز تخصصات فنية جديدة»، و«أي سياسات عمومية؟ وأي تدابير تقع على عاتق مجموع الفاعلين؟».ففي المحور الأول ظهر أننا، في العصر الرقمي، لم نعد نُبدع ونقرأ ونتأثر بالطريقة ذاتها، فيما تم الحديث، في المحور الثاني، عن فنانين شباب من العالم العربي يقومون بتجاوز الضوابط القائمة ويراوغون الرقابة ببث أعمالهم الفنية على الإنترنت، لتلقى نجاحاً واسعاً، يتفجر معه سؤال: «أليس في ذلك خطر، يتمثل في إفراغ الثقافة من محتواها وهيمنة التقنية عليها؟». في حين بدا الأمر، في المحور الرابع، متعلقاً بتشجيع المجال الرقمي على بروز أشكال فنية جديدة، مثل الفيديو على شبكة الإنترنت، والمواد السمعية البصرية المبثوثة على الويب، والصورة الرقمية، فيما نقل المحور الرابع، لمنطق السوق، الحاضر بقوة في المجال الرقمي، بشكل يدفع إلى طرح سؤال السياسات الثقافية العمومية الجديدة، التي من شأنها دعم الإبداع ومواجهة الفجوة الرقمية وضمان المساواة.ورأى إدريس اليزمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، في تقديمه لتحدي المجال الرقمي أمام الإبداع، من منطلق الحرية والمساواة، أنه «على الرغم من كون بعض الحكومات حاولت وما زالت تحاول تكميم حرية التعبير في العالم الافتراضي، فإن الحرية تظل هي الغالبة بل والمهيمنة»، قبل أن يستعرض مقاربتين؛ الأولى «متحررة، بشكل مبالغ فيه، ترى أن الولوج الشامل للعالم الرقمي يحمل في طياته بالضرورة منافع شتى للمواطن - المستهلك أو صانع محتوى. إذ يوسع هذا الولوج آفاقه بشكل غير متناهي ويمكنه من الوصول، دون حدود، إلى المعلومات والتعاليق والتحليلات والإبداعات الثقافية. كما يمكنه مبدئياً من التفاعل دون رقابة مسبقة مع مجموعات من مشارب وانتماءات متعددة ومع مختلف السلطات العمومية، ويسمح لمداركه وآفاقه بالتفتح دون أي نوع من العوائق والموانع التي تلجمه عادة وتحد من تطوره. وسواء أعلن عن هويته أو فضل إخفاءها، فإن مستعمل الإنترنت يمارس حياته بكل حرية وينضم للمجموعات التي يختار أن ينضم إليها لوقت قد يطول أو يقصر ويمكنه مغادرتها دون تحمل أي تكلفة اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية.وبالنسبة لدعاة هذه الرؤية، فإن لمنطق السوق وحده أهليةَ تنظيم وضبط هذا العالم الرقمي، بينما تتعاطى المقاربة الثانية مع الموضوع بنسبية، ولكنها تظل مثمرة على المدى البعيد. وتقوم على طرح الفرص التي توفرها هذه الثورة الجديدة مع تقييم التحديات المتعددة التي تفرضها».وشدد اليزمي على أننا «لا يمكن أن نستند، فقط، على العدد الإجمالي للمرتبطين بالإنترنت من أجل الجزم بأننا ربحنا التحدي الأول المتمثل في ضمان الولوج الشامل للإنترنت. فيمكن لهذا الرقم أن يخفي وراءه تفاوتات اقتصادية وجغرافية وسوسيو ثقافية كبرى. ذلك أن مصطلح (الفجوة الرقمية) ليس مجرد توصيف حالة، بل ما زلنا في حاجة لأن نعرف بشكل دقيق فئات مرتادي الإنترنت وعاداتهم وأنماط استعمالهم للفضاءات الجديدة للحرية، وكيف يعبرون هذه (الشعاب الرقمية) الناشئة».لكن، هل يمكننا أن نترك كل فئات الجمهور، خصوصاً الأصغر سناً والأكثر هشاشة، وحيدين إزاء هذه الموجات من «التسونامي» الافتراضي، دون تلقينهم أبسط قواعد الاستعمال المتعلقة بالإبحار في خضم المعطيات المتعددة المعروضة على الإنترنت، وبالتمييز بين مختلف المواد المطروحة بشكل آني، يتساءل اليزمي، الذي سينتقل للحديث عن التحدي الثاني المتعلق بالمضامين، حيث «عمل المبدعون، دون تردد، على اقتحام هذا العالم الجديد، وباتوا يصنعون، دون مركب نقص، عرضاً ثقافياً غنياً ومتنوعاً، غير أنه لا يمكننا غض الطرف عن الهيمنة الكبرى للبلدان المتقدمة على هذه المضامين. إنه بسط ساحق للهيمنة، كلما تقدم به الزمن إلا وصار كأنه واقع محتوم، ولا يتعلق الأمر بسيطرة كمية لهذه الدول، فحسب، وإنما بفرض لقواعدها ومعاييرها، بما في ذلك الجمالية منها، بشكل مستتر وبدهاء».من جهته، يهم التحدي الثالث السياسات العمومية، بشكل تتناسل معه الأسئلة، بخصوص ماذا يتعين على الحكومات القيام به دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بحرية المبدعين، وأين تبدأ مسؤولياتها، أو أين يجب أن تتوقف تدخلاتها، وأي نمط للتنظيم يجب عليها إرساؤه دون انتهاك للحريات الأساسية؟!ينتهي اليزمي من حديثه عن العصر الرقمي، في ارتباط بالإبداع والسياسات الثقافية: «إنه فجر عالم جديد يبزغ أمام ناظرينا ويوجد في متناول أيدينا، يحبل بثورات لا شك أنها أقوى من تلك التي ولَّدَها اختراع المطبعة أو الآلة البخارية».

مشاركة :