لا شك في أن من حقّ المسيحيين في لبنان أن ينشدوا «صحة التمثيل» داخل المجلس النيابي كما داخل الحكومة والإدارة اللبنانية. ولن ندخل في نقاش مدى اتّساق النزوع نحو نقاء التصويت المذهبي في اختيار «نواب الأمة»، مع فكرة البلد النهائي الواحد ومبدأ المواطنة التي يجب أن تكون قواعد لدولة حديثة واعدة. إلا أنه حري تأمل سوريالية الورشة المحلية في لبنان مقارنة بالأشغال الكبرى الجارية في المنطقة على قدم ساق، بما قد يستدعي جراحات حدودية وولادة كيانات، وربما اختفاء أخرى. ومع ذلك، ومن أجل عدم إغراق الساقية اللبنانية بمياه المحيط، قد يجوز السؤال حول علاقة التمثيل الصحيح المزعوم للبنانيين بمعضلات لبنان الكبرى خلال العقود الأخيرة، كما السؤال عما كان يمكن لهذا التمثيل المنشود أن يغير داخل البرلمان من مآلات درامية عصفت بالبلد. فإذا ما كانت هواجس الجماعات اللبنانية منصبّة على خريطة توزيع المناصب داخل البلديات والمؤسسة التشريعية وهيئات أخرى، فإن مصير لبنان ولبنانيّيه لا يخضع، ولم يخضع يوماً، للعبة الحصص والتحالفات والاصطفافات المزاجية الداخلية. لم تكن مشكلة البرلمان السابق أنه لا يعكس التمثيل الصحيح للبنانيين، على رغم صحة ذلك، بل إن هذا البرلمان كان معطلاً لا يفتح أبوابه إلا وفق أجندة تحددها قوة السلاح وحراك الشوارع. وقد تكشف جردة حساب بسيطة عن عدد الأيام القليلة التي عمل بها مقارنه بعمره المديد، كما عدد مشاريع القوانين التي صدّق عليها. وبالتالي فما هي فائدة برلمان جديد يفترض أنه أكثر تمثيلاً للبنانيين إذا ما كان مصير اللبنانيين أنفسهم مرتبطاً بما ترومه أجندات عواصم بعيدة ومتعلقة بمزاج يفرج عنه السيد حسن نصرالله الأمين العام لـ «حزب الله» أخيراً في وعده الطبقة السياسية اللبنانية برمتها باستيراد آلاف من المقاتلين الأجانب للعبور إلى داخل البلد دفاعاً عن لبنان المغتبط بتوصله لقانون تمثيل صحيح أو أصحّ للبنانيين. واللافت أن علاقة ملتبسة تربط منطق «فائض القوة» بمنطق «التمثيل الصحيح». استسلمت كل الطبقة السياسية اللبنانية صاغرة لمبدأ النسبية الذي طالب به «حزب الله» كقاعدة لأي قانون انتخابات. رفض البعض ذلك وتحفظ آخرون وراح بعض ثالث يتحدث عن مختلط بين النسبي والأكثري إلى أن نزل وحي غامض وباتت النسبية دين الجميع ومصدر الايمان. ولئن توفّر النسبية حقّاً يرفع غبناً عن فئات كان يمنعها «قانون الستين» الأكثري من دخول الندوة النيابية، فإنها تمثل، وفق حسابات «حزب الله»، باطلاً يراد به اختراق ما يمثله الخصوم بما يضمن له توسّعاً داخل الطوائف حتى لو أتت حسابات الحصاد على بعضٍ من التمثيل الحصري لـ «الثنائية الشيعية» للشيعة في لبنان. وعليه ممكن الاستنتاج أن ما يملكه الحزب من قوة خارج قواعد الدولة فرض على الدولة منطقه لانتاج السلطة. وعليه أيضاً يمكن الاستنتاج أن الطبقة السياسية برمّتها استقالت تماماً من نقاش مسألة احتكار الدولة للعنف وتثبيت مسلّمة امتلاكها الحصري للسلاح ولقرار السلم والحرب، لمصلحة الإقرار للحزب نفسه بأن قضيته وسلاحه ودويلته ليست على جدول النقاش اللبناني المحلي، وأن الأمر مرتبط بالأجندات الدولية والإقليمية الكبرى المناط بها وحدها التعامل مع هذه الحالة، على ما أوحى خلو لقاء القوى السياسية الأخر في قصر بعبدا الرئاسي من أي تطرق لما كان يعرف سابقاً بـ «الاستراتيجية الدفاعية». قد تكون الطبقة السياسية اللبنانية والتي خبرت تجارب الاغتيالات السياسية وغزوة السابع من أيار (مايو) والاعتصام داخل وسط العاصمة إلخ...، قد أدركت ان مصلحتها، وربما مصلحة البلد، تقتضي الاعتراف بالأمر الواقع وتجنب الاصطدام به. بيد أن غياب نقاش اللبنانيين عما يقرر مصير بلدهم سيبيح للخارج رسم خرائط قد تعبُر خطوطها جغرافيا لبنان ومستقبله. وفيما دافع اللبنانيون سابقاً، كل وفق رؤيته، وبضراوة وعنف، عما كان يخطط للبلد داخل الغرف الدولية المغلقة، فحافظوا على كيانهم واتفقوا أنه نهائي وحدثوا دستوره، فإن الفكرة اللبنانية، بمعناها الميثولوجي إذا جاز التعبير، يجري مسخها على مقاس إنجاز ينقل مقاعد طائفة من دائرة انتخابية إلى أخرى ويقيم قانوناً معقداً تختلط داخله أحجيات ما هو تفضيلي وتفصيلي لانتاج برلمان لن يكون خارج سطوة الدويلة وشروط هيمنتها. لا يعي ساسة لبنان أن صراعاً خبيثاً يأخذ أبعاداً دولية وإقليمية ومحلية للسيطرة على الطريق التي تعبر من طهران نحو بيروت. ولا يدرك المشغولون بتحسين تمثيلهم داخل طوائفهم أن مآلات ذلك الصراع سيحدد تماماً هوية لبنان السياسية ووظيفة مجلس النواب داخله. تتحدث قيادات في قوات الحشد الشعبي في العراق عن حرب للسيطرة على طريق بغداد-عمان وبغداد-دمشق. أحدهم يقول إن السيطرة على هذه الطرقات سيفتح طريق دمشق-جنوب لبنان (وليس دمشق-بيروت) أمام التبادلات التجارية. ومن ضمن هذه الورشة التي تطل عليها واشنطن بقوة في غرب الانبار العراقية وفي الرقة السورية شمالاً والتنف جنوباً وربما البوكمال لاحقاً، يعلن السيد حسن نصر الله عن معركة ضد إسرائيل ستستدرج إلى لبنان «مئات آلاف المجاهدين والمقاتلين من كل أنحاء العالم العربي والإسلامي ليكونوا شركاء في هذه المعركة من العراق ومن اليمن ومن كل مكان آخر ومن إيران وأفغانستان ومن باكستان». قد يجوز التبشير بسلموية حضارية يريد ساسة البلد المناهضون تقليدياً لـ «حزب الله» وللنفوذ الايراني انتهاجها سبيلاً وحيداً من أجل العبور إلى الدولة، وفق ما سماه وزير الاعلام اللبناني ملحم رياشي «الثورة السلحفاتية». بيد أن في لبنان من يبذل الدم والروح ويستنزف طائفة بأكملها ويستدعي التسلح الصاروخي ويستدرج الرجال من «كواكب» أخرى، من أجل استيلاد لبنان آخر، والصاقه بهوية واصطفافات أخرى، وجعله تفصيلاً داخل خطط قد لا تستطيع السلحفاتية ردّ شرورها.
مشاركة :