عندما تذكر اسم الحجاج بن يوسف الثقفي أمام أحد فلا بد أن يرد في مخيلته فوراً أنك تتحدث عن طاغية بني أمية، السفاح.. القاتل.. الذي ضرب الكعبة بالمنجنيق.. قاتل عبد الله بن الزبير.. ولكن لن يخطر بباله أن للحقيقة وجوهاً كثيرة ربما نعرف منها وجهاً واحداً فقط! عندما تتحدث عن شخصية تاريخية فلا بد أن تتناولها وتتناول أعمالها من كافة الجوانب؛ كي يكون حكمك عليها صحيحاً وعادلاً.. فلو تناولتها من جانب واحد فقط، فهكذا أنت جُرت وظلمت وحكمك يشوبه شائبة.. وهذا ما حدث مع الحجاج بن يوسف الثقفي؛ حيث إن معظم الكتابات تناولته من وجه واحد فقط، هو وجه الظالم السفاح القاتل. في هذا المقال سنتعرف على الجانب المشرق في شخصية الحجاج.. الجانب الذي لا يعرفه الكثيرون. فإذا نظرت في سياسة الحجاج لوجدته سياسياً عظيماً لا يخادع، ومقدماً لا تشق عصاه، قد لعب دوراً هاماً للغاية في حياة الدولة الإسلامية وساهم في توحيد كلمتها بعد أن كادت تتفرق ووأد الفتنة بعد أن كادت تنتشر. ألم يلي العراق وهي تضطرب وتموج بالفتنة وترفض أن تحارب الخوارج؟ فضبط أمورها لمدة تزيد عن الـ20 عاماً، وكان من الطبيعي أن يلبس ثوب الأسد ويعامل أهلها بمعاملة وصفها الكثيرون بالقسوة، وإن كانت من وجهة نظري ونظر غيري لا تستحق أن توصف بهذه الكلمة، فقد أدب العصاة وأذل العتاة، وضبط أمور البلد، وهل ينجح الساسة بغير هذا؟ فإذا نظرنا في الفتوحات التي قام بها الحجاج لوجدنا الإسلام بفضله يصل إلى الهند والصين، وبعث الحجاج بابن عمه محمد بن القاسم الثقفي لفتح بلاد السند، وكان شاباً عمره 17 سنة، ولكنه كان قائداً عظيماً موفور القدرة، نجح خلال فترة قصيرة لا تزيد عن خمس سنوات (89 - 95هـ = 707 - 713م) في أن يفتح مدن وادي السند (باكستان حالياً)، وكتب إلى الحجاج يستأذنه في فتح قنوج أعظم إمارات الهند التي كانت تمتد بين السند والبنغال، فأجابه إلى طلبه وشجعه على المضي، وكتب إليه أن "سِر فأنت أمير ما افتتحته"، وكتب إلى قتيبة بن مسلم عامله على خراسان يقول له: "أيكما سبق إلى الصين فهو عامل عليها". ولو عاش الحجاج لأكمل قتيبة فتح الصين كلها، ولأكمل ابن القاسم فتح الهند كلها. وفي الفترة التي قضاها الحجاج في ولايته على العراق قام بجهود إصلاحية عظيمة، وشملت هذه الإصلاحات النواحي الاجتماعية والصحية والإدارية وغيرها؛ فأمر بعدم النوح على الموتى في البيوت، وبقتل الكلاب الضالة، ومنع التبول أو التغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأمر بإهراق ما يوجد منها، وعندما قدم إلى العراق لم يكن لأنهاره جسور فأمر ببنائها، وأنشأ عدة صهاريج بالقرب من البصرة لتخزين مياه الأمطار وتجميعها لتوفير مياه الشرب لأهل المواسم والقوافل، وكان يأمر بحفر الآبار في المناطق المقطوعة لتوفير مياه الشرب للمسافرين. ومن أعماله الكبيرة بناء مدينة واسط بين الكوفة والبصرة، واختار لها مكاناً مناسباً، وشرع في بنائها سنة 83هـ/ 702م، واستغرق بناؤها ثلاث سنوات، واتخذها مقراً لحكمه. وكان الحجاج يدقق في اختيار ولاته وعماله، ويختارهم من ذوي القدرة والكفاءة، ويراقب أعمالهم، ويمنع تجاوزاتهم على الناس، وقد أسفرت سياسته الحازمة عن إقرار الأمن الداخلي، والضرب على أيدي اللصوص وقطاع الطرق. ويذكر التاريخ للحجاج أنه ساعد في تعريب الدواوين، وفي الإصلاح النقدي للعملة، وضبط معيارها، وإصلاح حال الزراعة في العراق بحفر الأنهار والقنوات، وإحياء الأرض الزراعية، واهتم بالفلاحين، وأقرضهم، ووفر لهم الحيوانات التي تقوم بمهمة الحرث، وذلك ليعينهم على الاستمرار في الزراعة. ومن أجلِّ الأعمال التي تنسب إلى الحجاج اهتمامه بنقط حروف المصحف وإعجامه بوضع علامات الإعراب على كلماته، وذلك بعد أن انتشر التصحيف؛ فقام "نصر بن عاصم" بهذه المهمة العظيمة، ونُسب إليه تجزئة القرآن، ووضع إشارات تدل على نصف القرآن وثلثه وربعه وخمسه، ورغّب في أن يعتمد الناس على قراءة واحدة، وأخذ الناس بقراءة عثمان بن عفان، وترك غيرها من القراءات، وكتب مصاحف عديدة موحدة وبعث بها إلى الأمصار. كان الحجاج معروفاً بحسن عبادته، وغيرته على القرآن، وكان مبتعداً عن الملذات، زاهداً في المال، وكان صاحب مواعظ بليغة، معروفاً ببعده عن صفات النفاق الثلاث. وعن إبراهيم بن هشام، عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: "ما حسدت أحداً، حسدي الحجاج على حبه القرآن وإعطائه أهله عليه. ويزعم البعض أن الحجاج قد ضرب الكعبة بالمنجنيق حتى هدمها، وهذه الفرية رد عليها شيخ الإسلام، فيقول في الجواب الصحيح (5|264): "والحجاج بن يوسف كان معظماً للكعبة لم يرمها بمنجنيق". ويقول في الرد على المنطقيين (1|502): "والحجاج بن يوسف لم يكن عدواً لها ولا أراد هدمها ولا آذاها بوجه من الوجوه ولا رماها بمنجنيق أصلاً". ويقول في منهاج السنة النبوية (4|348): "أما ملوك المسلمين من بني أمية وبني العباس ونوابهم، فلا ريب أن أحداً منهم لم يقصد إهانة الكعبة: لا نائب يزيد، ولا نائب عبد الملك الحجاج بن يوسف، ولا غيرهما. بل كان المسلمون معظمين للكعبة. وإنما كان مقصودهم حصار ابن الزبير. والضرب بالمنجنيق كان له لا للكعبة. ويزيد لم يهدم الكعبة ولم يقصد إحراقها لا وهو ولا نوابه باتفاق المسلمين".. من أجل هذه الصفات القيادية فيه قال عنه الوليد بن عبد الملك: كان أبي يقول إن الحجاج جلدة ما بين عينيه، أما أنا فأقول إنه جلدة وجهي كله. وحينما حضرته الوفاة قيل له: ألا تتوب؟ فقال: إن كنت مسيئاً فليست هذه ساعة التوبة، وإن كنت محسناً فليست ساعة الفزع، ثم دعا فقال: اللهم اغفر لي فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل. وختاماً فمقالي هذا ليس دفاعاً عن الحجاج فقد مضى إلى لقاء ربه وحسابه عند الله، ولكنه دعوة لإنصاف الشخصيات التاريخية المظلومة، دعوة أن يكون الباحث منزهاً عن الهوى حينما يتناول شخصية ما بالدراسة، إذ إن كثيراً مما يتناقله الناس عن بعض الشخصيات، أو يعرف عنهم قد لا تكون الحقيقة كاملة، وقد ينتشر عن بعض الرموز سواء كانت سياسية، أو اجتماعية، أو غيرها، جزء بسيط من حياتها ويخفى كثير، والحكم على الأشخاص لا بد أن يكون من خلال "ميزان" توضع فيها السلبيات والإيجابيات، ويعرف الناس محاسن من يتكلمون عنه كما يعرفون مساوئه. ــــــــــــــــــــــالمصادر: - الطبري محمد بن جرير: تاريخ الرسل والملوك - تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم - دار المعارف - القاهرة - 1971م. - ابن خلكان: وفيات الأعيان - تحقيق إحسان عباس - دار صادر - بيروت - 1979م. - ابن كثير: البداية والنهاية. - ابن عبد ربه: العقد الفريد. - ابن سعد: الطبقات الكبرى. - إحسان صدقي العمد: الحجاج بن يوسف الثقفي - دار الثقافة - بيروت - 1973م. - عبد الواحد ذنون طه: العراق في عهد الحجاج بن يوسف الثقفي - منشورات مكتبة باسل - الموصل - العراق - (1405 هـ = 1985م). - علي حسني الخربوطلي: تاريخ العراق في ظل الحكم الأموي - دار المعارف - القاهرة - 1959م. - محمود زيادة: الحجاج بن يوسف المفترى عليه. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :