الحرب على داعش توفر نوعا من اتفاق دولي وعالمي على الحرب على الإرهاب، لكن ماذا بعد تفكيك التنظيم وانتشار خلاياه وعودة بعض مقاتليه إلى بلدانهم أو انتقالهم كأفراد ومجموعات صغيرة إلى دول أخرى.العرب حامد الكيلاني [نُشر في 2017/07/05، العدد: 10682، ص(9)] عندما دخل الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى البيت الأبيض مع أفراد أسرته في فترته الرئاسية الأولى، لاحظ أحد المهتمين بالتفاصيل التجارية ازدياد نسبة مبيعات دمى الأطفال باللون الأسود، موجها الأنظار إلى ذكاء المنتجين في الشركات المعنية بصناعة لعب ومستلزمات الطفولة، وذلك يستدعي التبصر والتأمل في الأشياء البسيطة للارتقاء بها إلى مستوى أقرب إلى الكمال في حس الحياة لتحويلها إلى وقائع معيشة تتكون منها، وبها، الاستراتيجيات الكبيرة والمهمة كإدارة الدولة وأمنها الداخلي والقومي وتنميتها وسياستها الخارجية ومكانتها بين دول العالم. أكثر من دولة على قائمة البلدان الأرقى سعادة في معايير الرفاه والحريات وأنماط العيش لمواطنيها، أقدمت على إغلاق العديد من مراكز شرطتها وتكليف المنتسبين بمهمات تقترب من الواجبات الإنسانية التطوعية العامة، بعض تلك الدول خفضت نسبة السجون التقليدية، ومن مواطنيها من استثمرها لأغراض ذات صلة بالسياحة والتعريف بتاريخ المكان ورواية الحكايات وبتصميم يثير الاهتمام في تنوع نشاطاته واهتماماته لغرابتها وأفكارها وتسويقها. في بلداننا دلائل على ارتباط الناس بسلطاتهم وقادة بلدانهم، ولو أجرينا إحصاءات عامة من ذاكرتنا لتوقفنا أمام أسماء المواليد المشابهة لاسم الحاكم، حتى أننا نستطيع تخمين أعمارهم؛ في العراق مثلا إذا تحدث أحدهم عن شخص ما اسمه فيصل، فتأكد أن عمره غالبا يتجاوز السبعين الآن وهكذا إلى أسماء غازي أو عبدالكريم أو عبدالسلام وأسماء أخرى في العراق وعالمنا العربي. ما نريده أن الشعوب تتأثر بنوع وتركيبة وتوجهات قادتها وسلطاتها وما بين الإثنين من علاقة خفية طردية تنعكس تقدما أو تراجعا لأننا نعاني من أمراض مزمنة سببها فائض إنتاج سوء الأوضاع الذي تفاقم إلى أن وصلنا عصر المأساة والتراجيديا والفرجة على الانحطاط كما هو حاصل في العديد من المدن العربية ومنها الموصل. الآلاف من المدنيين المحاصرين في المدينة القديمة تحت الأنقاض أو في بيوتهم، ومع ذلك يتم التهليل لنهاية تنظيم الدولة الإسلامية ومن على خرائب جامع النوري ومئذنته الحدباء التي تحولت ركاما، ما هي دلائل تلك النشوة الإعلامية سوى سباق سياسي مطلوب تحف به تصريحات مبتذلة لبرلمانيين أو ساسة ينتقصون من هول ما تعرض له أبناء الموصل من كارثة القتل والتدمير ومذلة المخيمات والجوع، ويزايدون على دم أبناء الجنوب الذين قاتلوا في الموصل إن كانوا في القوات النظامية أو في الحشد الميليشياوي حتى أصبحت عباراتهم قوالب جاهزة من الإساءة إلى أهلنا فيها من التشفي والتقزز ما يرسم الانقسام الطائفي الحاد الذي يعمم المحاصصة الطائفية والسياسية إلى محاصصة الدم. ذلك هو المزاد العلني الأكثر مبالغة في ترجمة التقسيم واقعيا والذي ينسف تماما أي مصالحة أو تسوية أو جهد في القضاء على الإرهاب، بتسميته التي فقدت معناها العام المتفق عليه، وتشظت إلى تساؤلات شائكة تحيط بها الريبة والشك بما تحمله لنا من توقعات قادمة. تنظيم الدولة الإسلامية يحتل أكثر من مدينة عراقية غير مركز الموصل وهو لا ينقطع عن هجوماته في إطلاق القذائف أو السيارات المفخخة أو الانتحاريين، واستعادة الموصل وغيرها لن تقضي على التنظيم الإرهابي وفكره المتطرف ولنا مثل في 11 سبتمبر 2001 وما تلاه من حرب شرسة للقضاء على تنظيم القاعدة، فرغم كل خسائر التنظيم إلا أنه مازال على قيد الإرهاب متفرعا إلى تنظيمات أخرى بأساليب وتكتيكات مختلفة. نستطيع القول إن المهمة أنجزت فماذا بعد القول الفصل والخاتمة بتدمير الموصل وما لحق بناسها من تشريد وموت؟ هل هناك من يجادل بما آلت إليه بوصلة النتائج وعلى من استقرت خرائط الأرض وميدان الصراع بعد أن كانت خرائط ورقية على مناضد وطاولات الأهداف والغايات السياسية والعسكرية؟ في جرد بسيط لخدمات داعش أو تنظيم الدولة الإسلامية لتنظيم جمهورية إيران الإسلامية ما قاله رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في مجمع تشخيص مصلحة النظام علي أكبر ولايتي “طريق المقاومة يبدأ بطهران ويمر بالموصل ودمشق إلى بيروت”. وتصريحات أخرى لرئيس مجلس الأمن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشورى الإيراني علاءالدين بروجردي الذي أشاد بفيلق القدس ودوره في حماية دمشق وبغداد من السقوط بيد الإرهابيين. وبفضل تنظيم الدولة الإسلامية تم إجهاض ثورة الشعب السوري ومطالبها العادلة، للإبقاء على نظام الحكم الدموي في سوريا وإعادة تأهيله للسيطرة على مقاليد السلطة. ويستمر التنظيم في تقديم خدماته للنظام ولروسيا، فمن خلاله تم استهداف الفصائل المسلحة للمعارضة المعتدلة في الجيش السوري الحر الذي تكبد خسائر فادحة في مواجهاته ضد التنظيم، وبسبب اتخاذ التنظيم مبررا للتعميم الروسي السوري الإيراني باعتبار كل أنواع المعارضة إرهابية بالمطلق، وبه أيضاً تم تدمير المدن السورية وقراها بشرعية مكافحة الإرهاب. وبسبب التنظيم توفرت الفرصة لتشكيل الحشد الميليشياوي الطائفي كبديل عابر للحدود دون إثارة المجتمع الدولي في ما لو انتقل الحرس الثوري الإيراني رسميا للقتال داخل العراق، وبهذه الحجة أصبح الحشد مؤسسة بكامل اشتراطات التسليح والإدارة وتحت حماية تشريع قانوني برلماني يضمن له المراوغة وتسيد المشهد السياسي والعسكري والإعلامي والديني، حتى أنه لا يذكر إلا والقداسة تتقدمه، لذلك هو محصن من الأخطاء والخطيئة والحساب والمساءلة التي ستنظم بقانون البراءة المطلقة. فهل من خدمة أعظم من بناء الهلال المذهبي الذي يتفاخرون باكتماله بدرا في المنطقة وبإرادة الميليشيات وبسياسة زراعة الكراهية والحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في العلن، ودعمه واحتضان قياداته وفكره في الباطن. خدمات متنوعة على مستوى السياسة والاقتصاد والهيمنة وصراع القوى الكبرى ومصالحها وتصاعد الاصطفافات والمحاور وصفقات الأسلحة، كل ذلك لا يمكن أبدا أن يكون بدافع أفكار متشددة متطرفة أو إحساس بالظلم أو القهر. يمكن أن تتم تصورات المقاتلين البسطاء والترغيب أو التوريط تحت هذا الفهم، لكن القيادات تمتلك فن إدارة ومناورة استمرار ومستلزمات أكبر أجهزة المخابرات بمدارسها ودوراتها التدريبية والتعليمية، لذا نعتقد أن نهاية تواجد التنظيم في الموصل هو خدمة يوظفها التنظيم لصالحه في الخلاص من قيوده الإدارية ومعظمها خارج اهتماماته الحياتية وللخلاص من التحشيد الدولي ضده رغم خساراته في الأفراد، ولهذا سيعود من يتبقى منهم لأداء مهماته المباغتة. هناك دعوات لتعيين حاكم عسكري في الموصل بعد مرحلة داعش، وهي خطأ استراتيجي يتعلق بفهمنا لفرض الأمن. المطلوب إدارة مدنية تقرأ معنى احتياجات أهل الموصل في الإعمار وإعادة البنى التحتية ومعالجة الآفات المجتمعية التي خلفتها السنوات العجاف من 2003 إلى حاضرنا، بما فيها نكبة تسليم المدينة العربية إلى تنظيم الدولة الإسلامية بالظروف المعروفة، واحتضان الجميع وتذويب الصراعات المحتملة؛ قادة حكماء وأحرار من المشاريع والتجاذبات الإقليمية، لأن أول مبادئ الأمن هو الاستقرار والتنمية المتوازنة والشعور بالعدالة مع ارتقاء في خط الرخاء والسعادة. ما نؤكد عليه أن الخروقات واردة في الموصل وأن الخوف من مرحلة ما بعد داعش مبرر ومشروع، لأن ما يجري على الأرض لا يدعو إلى الطمأنينة، إذ أن فراغات إرهاب داعش احتلها إرهاب الحشد الطائفي، أي إن ولاية المرشد الإيراني على سكتها في الطريق من إيران إلى دمشق عبر نقطة انطلاق مدينة تلعفر وفق السياسة الإيرانية المرسومة له. قد يقول أحدهم إن هذا الخط الواصل خط وهمي باعتبار الحدود العراقية من نقاط حدودية متعددة تحت تصرفهم، وهذا صحيح لكن الخط المعني متعدد الأهداف والرسائل إلى المشاركين في تقرير الإرادات ونتائجها. الحرب على داعش توفر نوعا من اتفاق دولي وعالمي على الحرب على الإرهاب، لكن ماذا بعد تفكيك التنظيم وانتشار خلاياه وعودة بعض مقاتليه إلى بلدانهم أو انتقالهم كأفراد ومجموعات صغيرة إلى دول أخرى كما يحدث في زيادة أعداد التنظيمات في الفلبين أو الصومال؟ أيّ نوع من الصراعات ستشهدها المنطقة بعد اختفاء الحد الأدنى من التفاهمات الدولية في الحرب على إرهاب داعش؟ هل الحروب الاستباقية وفرض الإرادات عنوان الصراع التالي؟ هي حقيقة لقراءة أولية لما بعد مرحلة داعش. في العراق إذا أردت أن تعرف حقيقة ما يجري من أصداء السياسة والحكومة والغد فتابع زعماء الميليشيات؛ إذا خاطبتكم الميليشيات فصدقوها، لأنها أصوات سيدها. كاتب عراقيحامد الكيلاني
مشاركة :