أثناء تصفحي لوسائل التواصل الاجتماعي، وعلى وجه الخصوص الفيسبوك، يكاد لا يخلو يوم إلا وأرى فيه منشورات للأصدقاء والصفحات التي أقوم بمتابعتها تمجّد رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو وتقدّس إنسانيته. مما لا شك فيه أن جميع سكان الأرض هم على هذه الحال، لمَ لا وهم يرون في هذا القائد الكندي الحلم الذي يتمنونه لأنفسهم وبلدانهم؟! فتجد أن انتشار صوره ما هو إلا محاولة لإرضاء النفس وإقناعها بأنه "ربما" سيأتي يوم ويقود منطقتنا شخص مشابه. بالتأكيد عوامل السن والشكل الشبابي الوسيم ساعدت في زيادة شهرته، لكنك لن تستطيع خداع مليارات البشر لمدة طويلة اعتماداً على شكلك ومظهرك ما لم يكن لديك قيمة مضافة حقيقية، فيبقى السؤال هنا: "بمَ يختلف ترودو عن سواه ليلقى هذا الحب؟".لندخل في تحليل هذه الظاهرة بشكل أعمق قليلاً، أعتقد أن لشعبية وشهرة ترودو في مجتمعنا العربي عاملين أساسيين:1- الإنسان بطبعه مخلوق مستقر ومنضبط معظم الأحيان، محب للآخرين واجتماعي مع محيطه، ويبقى هكذا حتى يتسلم أول موضع يخوله السلطة، حينها سترى أسوأ وأبشع ما قد يحمله الإنسان بين طياته، ترى منه كبت السنين التي أحس فيها بالظلم والضعف تنتشر على مَن له عليه سلطان حتى على الأقربين منه، وتستطيع تجربة سجن ستانفورد الشهيرة أن تعطينا خير مثال على ما يمكن للمرء فعله حين تسلمه لسلطة، ناهيك عن جنون العظمة الذي أصاب معظم القادة على مر التاريخ. لكن حين نتحدث عن ترودو، نرى أن تصرفاته كقائد هو الأعلى سلطة في بلده كسرت هذه القاعدة، فكم من رئيس جمهورية تراه يُحيي جميع الديانات والطوائف في أعيادها ويتشاطر المناسبات الاجتماعية مع كل أطياف المجتمع، تراه في صفوف معظم المسيرات الهادفة للدفاع عن رأي أو معتقد. سواء كانت هذه التصرفات مجرد بروباغندا إعلامية أم لا، فإنها حققت نتائجها المرجوة. فاعتياد العرب على حكام متسلطين، قمعيين، شكَّل صدمةً لهم حين رأوا ما رأوه من ترودو. أي أن اعتيادنا على نمط معين للقادة، وخاصة في القرن الأخير، جعل أبسط الممارسات القيادية تثير لدينا العديد من علامات الانبهار والتعجب. 2- دقق في أفعال ترودو التي يتغنى بها الفيسبوك عربياً، سترى أنها ليست سوى أفعال "إنسانية" بحتة، المحبة والاحترام للجميع وعدم التفرقة والتمييز بناء على لون أو معتقد ما هي إلا تصرفات تنبع من الفطرة السليمة للإنسان، قبل أن يشوهها التطرف لأي معتقد أو فكر أو توجه، حتى إن تسميتها بالإنسانية جاءت من كون الإنسان يتصرف كإنسان. وهنا مربط الخيل، فحين تثار دهشتنا من تصرف الإنسان بإنسانية، وحين يبهرنا كون الإنسان إنساناً، فلنعلم أننا قد عانينا كثيراً على الصعيدين النفسي والأخلاقي، ولنتأكد أن الانقسامات والتطرف في التوجهات فعلت ما فعلت بنا على مر السنين. فمشكلتنا الحقيقية تكمن في مجتمع ينبذ المختلف، ويحتقر الغريب عن المجموعة، ويقيم للأفكار الدينية والسياسية والجنسية وزناً أكبر من عمل المرء وأثره في محيطه والقيمة التي يضيفها. نحن بحاجة لإعداد جيل قادم إنساني، لا يستغرب من أفعال المحبة والاحترام، يضع الأخلاق معياراً أساسياً لحكمه على الآخرين. وفي كلامي هذا فأنا لا أمجّد في ترودو ولا أقدس فيه، بل على العكس أرى أنه لم يفعل أكثر مما تتطلبه فطرته السليمة. ترودو حقيقةً لم يقم بأية عمل خارج عن المألوف الإنساني، ولم "يكتشف الذرة"، كما يقولون، جلّ ما قام به هو أنه أصبح إنساناً، فتعلق مجتمعنا به لندرة وجود الإنسان في مجتمعنا، سواءً على الصعيد المدني الاجتماعي أو القيادي. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :