الصحراء.. حياة تسكن بيوت شعر البادية

  • 7/6/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

أمل سرور هناك يهمس الريح لسعف النخيل راسماً لوحاته النادرة بين أحضان جبالها وكثبانها الرملية. وجوهٌ هادئة وقلوب بِكر لم تعرف للتلوث طريقاً. هناك عند ذاك العبق وتحت ظلال النخيل وبين جلسات الأجداد وأمام حكايات الأولين لا تملك سوى أن تتأملها لتشعر حتماً بالحنين إلى كل ما هو قديم. هناك فقط تسمع صوتاً أبدياً يُشجيك ليُدخل في قلبك حالة من حالات الشجن.. إنها الحياة البدوية القديمة في صحراء الإمارات.تشدني رائحتها وتأسرني أطرافها المترامية وآفاقها التي لا تنتهي، على الرغم من جنونها وتمردها فإنها تبدو أعرق وأكثر حكمة من بشر تنبض الحياة في عروقهم. تلك هي الصحراء التي تستطيع أن تشم رائحتها عندما تقترب من حكايات البدو، لتتعرف إلى تفاصيل الحياة الصحراوية التي عاشها الأجداد القدامى في الدولة. محمد سالم الشامسي، كان بمثابة المفتاح الذي فتح لي أبواب البيئة الصحراوية القديمة، حين بدأ يتحدث بصوت هادئ وبحالة من حالات الحب عن بيوت الشعر، قائلاً: «كانت مسكننا في الزمن الماضي، ومن المعروف أنها تُصنع من السدو وهو من الحرف الخاصة بالنساء، وتستغرق عملية إنشائه من الوقت الكثير، وتأخذ الجهد الوفير في مدة زمنية تتراوح بين شهر وشهرين، خصوصاً إذا كانت المرأة مستمرة في عملها ولا تُكلف بأي شيء آخر».يضيف: «كان يُعد من أهم الوسائل التي صنعها البدو لأنفسهم بطريقة تقنية وتقليدية وتتميز بمقاومتها وتحملها لظروف البيئة الصحراوية القاسية، كما أنه مناسب تماماً للجو المتقلب فمثلاً في فصل الصيف لا يخلو من فتحات صغيرة تسمح بمرور الهواء، أما في مواسم الأمطار فتتضخم خيوط الشعر وتضيق حلقاتها بفعل المياه وبذلك لا تتسرب أبداً إلى داخله، هذا بالإضافة إلى أننا عندما نشعل النار فإن الدخان يصعد إلى الخارج عن طريق تلك الفتحات، والحقيقة أننا نعتز ببيوت الشعر لأنها تمثل رمز الأصالة البدوية العريقة وتراث قديم نفتخر به».مطر بن غويري، «ابن الصحراء»، هكذا يلقبونه، يقطع الحديث مستطرداً عن بيت الشعر: «يصنع من الجلد بكامل تفاصيله ويخاط من قبل النساء اللاتي كن يثبتن الخيمة بكاملها بعد خياطتها ويصلنها ببعضها بعضاً، ثم يوضع لها الأوتدة التي تكون من كل الجوانب، لتُثبّت قبل أن ترفع الخيمة إلى الأعلى، ويوضع أمام الخيمة غطاء فيه فتحات واسعة في فصل الصيف وتضيق في فصل الشتاء. وبيت الشعر يقسم إلى قسمين قسم منه للرجال والآخر للنساء وفي الأول يوجد المطبخ وبعض الأدوات وخزانات الألبسة وغيرها لأنهن يقمن على خدمة أهلهن من طبخ وخياطة وتنظيف وغير ذلك».السفينة والحظيرةشردت بذهني ولم تدم حالة تأملي كثيراً، فصوت خليفة الطنيجي كان كفيلاً أن يجعلني أنتبه، خصوصاً حين بدأ يتحدث عن سفينة الصحراء قائلاً: «الإبل هي رؤوس أموال العرب، هي سفن البر، وجلودها قِرب ولحومها نشب وبعرها حطب وأثمانها ذهب، كما جاء في الأقوال المأثورة، فإن حملت أثقلت، وإن مشت أبعدت وإن نُحرت أشبعت وإن حُلبت أروت، وهي مقياس الثروة للرجال قديماً، لذا كانت مدعاة تحرك مشاعر الشعراء الذين حاروا في طباعها وسجلوا أبياتاً في غاية الروعة عن خصائصها وسلوكها وصبرها وتحملها ومنافعها ورفقتها في الأسفار البعيدة، فكانت موضوعاً ثرياً لهذه الفئة ومضرب الأمثال في البادية».ويضيف الطنيجي: «البدو تنبهوا إلى حليب الإبل قبل الباحثين والدارسين، والعلماء بمئات السنين، فكانت هي مصدر العيش لديهم يهيئون لها المرعى الجيد، ويستعينون بها في رحلاتهم وأسفارهم البعيدة في الشتاء والصيف، فلبن الإبل لا يفسد ويحافظ على مذاقه مدة طويلة بعكس الأنعام الأخرى».يأتي صوت الوالد عبد الله الطنيجي، مقاطعاً حديث ابنه، قائلاً: «الحظيرة يا وليدي. ما زالت تحتفظ بمكانتها التاريخية وحضورها الطاغي في أجواء السمر البدوية الإماراتية، إذ تجمع العديد من الرجال حول دلة القهوة الكبيرة التي حفر لها دائرة صغيرة في الرمال لتملأها قوالب الفحم الصغيرة المشتعلة والقهوة تسوى على نار هادئة فتترك في الأفواه طعماً حلواً رغم أنها خالية من السكر وبالتأكيد لا تخلو الجلسة الحميمة من ذاك الذي يحرك شجونها بربابته المصنوعة بطريقة تقليدية خالصة ما يؤكد بأن الربابة ما زالت تحتفظ بمكانتها القديمة التي دائماً ما تضفي بهجة على المكان».بعد أن فرغ الوالد عبد الله الطنيجي من حديثه، ساد الصمت الأجواء، فقطعته متسائلة عن عمود البيت البدوي «القهوة»، ابتسمت الوجوه، وبدأ مطر بن غرير حديثه بحبٍ عنها، قائلاً: «كلمة معناها كبير جداً، يمكن أن تنطلق الذبائح مع كلمة (قهوتك عندنا) ويمكن الاكتفاء بها فهي تقدير كبير للضيف، واستخدم أجدادنا قديماً لصناعتها أدوات مختلفة منها (التاوه) وهي من الحديد والتي تستخدم لتحميص حبات البن، وهي نوعان منها الكبير والعميق، والثاني الصغير ذو العمق المتوسط، التي تستخدم تحديداً في تحميص البن، ومن هنا صنع (المحماس) وهو عبارة عن قطعة طويلة من الحديد أو النحاس، صنعت لتقليب القهوة وتحميصها كما يمكن استخدامها في رفع الخبز عن التاوة».ويضيف ابن غرير: «فنجان القهوة أنواع، فالفنجان الأول الذي يحتسيه المضيف قبل الضيف، وهذه العادة قديماً عند البدو ليتأكد الضيف أن القهوة نظيفة، أما الثاني فهو (الضيف) وهو الأول في واجب الضيافة، والثالث (الكيف) وليس مجبراً على شربه ولا يضير المضيف ولكنه مجرد تعديل للمزاج، بينما الفنجان الرابع وهو (السيف) الذي يقدم للضيف ولا يحتسيه لأنه أقوى فنجان عند عرب البادية، إذ إنه يعني أن من يحتسيه فهو مع المضيف في السراء والضراء ومجبر على الدفاع عنه بحد السيف بل وشريكه أيضاً في الحرب والسلم».

مشاركة :