أكثرياتنا وأقلياتنا في حرب الديمغرافيا في الموصل والرقة علي العائد سكان الموصل وسكان الرقة أكثرية مطلقة في كل من المدينتين مقارنة مع داعش، ومع الحشد الشعبي والجيش العراقي ومقارنة مع “قوات سوريا الديمقراطية”، بل مقارنة مع القوات المهاجمة للمدينتين لتخليصهما من شر داعش. لكن الأكثرية هُزمت من داعش، ومرشحة للهزيمة من “المحررين”. فمعيار الشر الأكبر والشر الأصغر لا يختلفان بالنسبة إلى السكان المدنيين خاصة في الفترة القصيرة، على الرغم من تفوق شر داعش كونه امتد أكثر من ثلاث سنوات في كل من الموصل والرقة. والضغط الذي عانى منه كل من سكان الموصل والرقة نزوحا وموتا بالنسبة إلى من فر بحياته، وموتا وقهرا وحصارا في المدينة بين تهديد داعش وقذائف المهاجمين أكثر راهنية خلال أكثر من ثمانية أشهر هناك، ويصدق القياس نفسه على الرقة كلما امتد زمن معركتها. حَكَمَ داعش سكان المدينتين منفردا بالترهيب والسلاح. وهم الآن تحت حكم السلاح بين جهتين متعاديتين لا تملكان ما يكفي من المعلومات عن بعضهما كي تحسم إحداهما المعركة وتجنبا السكان المدنيين شر القذائف العمياء التي ترجح موت عدد أكبر من المدنيين مقارنة بعدد القتلى من عناصر داعش، ما دام ما تبقى من عناصر داعش في المدينتين لا تتجاوز نسبتهم 10 بالمئة، أو أقل من ذلك، مقارنة مع ما تبقى من السكان في المدينتين. قد نقبل صاغرين أن تقتل الأسلحة الذكية والرماة الماهرون نسبة 10 بالمئة من المدنيين من ضمن مجموع القتلى في العمليات العسكرية، لكنّ أحدا لا يقبل أن يشكل المدنيون نسبة 90 بالمئة من مجموع القتلى. فخسائر داعش القليلة ترجح زمنا طويلا لمعركة ترشّح مزيدا من المدنيين للموت. وهذا دون الحديث عن التدمير المستمر لما تبقّى من البنية التحتية في المدينتين بما في ذلك البيوت. وفي ما بعد معركة الرقة لا يرجّح أن يدَّعي أكراد “حزب الاتحاد الديمقراطي” في “قوات سوريا الديمقراطية” وجود تفوّق ديمغرافي كردي في مدينة الرقّة ذات الأغلبية العربية الساحقة، كما جرى في مناطق في الحسكة والقامشلي وعين العرب -كوباني، وعفرين، على الرغم من الشك في ذلك كونه يحتاج إلى إحصاء دقيق، وليس مجرّد دعاوى سياسية. وفي الرقة لن ينجح هذا المسعى، كون الأغلبية المطلقة هنا عربية. فهذا المسعى نفسه فشل في تل أبيض وفي منبج، حتى بعد إمساك الأكراد الأرض بقوة السلاح بدعم أميركي خبيث سيطال الأكراد مستقبلا كما يطال العرب الآن. كما لا يرجّح أن تتساوى نسبة السكان العرب مع نسبة السكان الأكراد في المدينة والمحافظة بعد العدد الكبير المتوقع من القتلى المدنيين العرب لأن نسبة السكان الأكراد تزيد أو تنقص حول نسبة 2 بالمئة من مجموع السكان في المدينة (2011). هذه الفكرة مطروحة منذ صعود نجم القوة الكردية في سوريا، وتأتي الآن متزامنة مع نصر كردي وشيك على داعش في الرقة وتأكيدات من أطراف عديدة مشتركة في المعركة، أو مشرفة عليها، أن الرقة سيتم تسليمها إلى مجلس محلّي من سكانها لتسيير حياة المدنيين فيها في انتظار حلّ ينهي الحرب في البلاد. ومن ضمن هذه التأكيدات تصريحات لقادة أكراد أوضحوا أن القوات الكردية لن تسلّم المدينة للنظام الأسدي، ولن يبقوا فيها بعد التأكد من طرد داعش منها. وطرد داعش هو التعبير الأدق عمّا يجري في المدينة منذ ثلاثة أسابيع، فالمعركة التي بدا أنها تتقدم بسرعة في الأيام الأولى للهجوم راوحت مكانها في الأسبوعين الأولين. وفي الأسبوع الثالث بدأ الحصار المطبق على المدينة يعطي نتائجه، لكن التقدم لم يكن حاسما في شرق المدينة وجنوبها، فما تبقّى من عناصر داعش لا يتمسكّون بأيّ مكان في هاتين الجهتين، وهم على الأرجح يتوزّعون في الأحياء الشمالية والغربية للمدينة ويشنون عمليات انغماسية مؤثرة على القوات المهاجمة. تتكون الرقة من 26 حيا تمتد أفقيا، فأعلى الأبنية في الرقة مؤلف من أربع طبقات ما يعني مساحة كبيرة نسبيا، وأحياء عشوائية ضمن المخطط التنظيمي للمدينة والقرى القريبة التي اتصلت بعمران الرقة. ولذلك لم تحدث اشتباكات حقيقية في قرية “المشلب” بين “قوات النخبة” التابعة لـ”تيار الغد” الذي يرأسه الرئيس السابق للائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة أحمد الجربا وبين عناصر داعش. وعند سيطرة هذه القوات على قرية “المشلب” ثم “حي الصناعة” دخلوا دون قتال بعد تمهيد من الطيران والمدفعية قبل أن تلتف مجموعات من داعش على “النخبة” وتضطر الأخيرة إلى الانسحاب من أجزاء من الحيّ. لكن مجريات المعارك تتغير كل ساعة، وقد تعصف نتائجها النهائية بكل التوقعات. ويمكن تشبيه تقدم “قسد” من الجنوب بنزهة، بعد عبورهم الفرات من ضفته اليمنى إلى اليسرى، والتقدم في حي “بين الجسرين”، والأحياء الشرقية جنوب حي الصناعة، باتجاه ساعة المدينة. أما ما يُقال عن معركة أو تقدم في اتجاه ما يدعى بـ”المدينة القديمة” فكلام غير دقيق، ففي الرقة لا توجد مدينة قديمة ومدينة حديثة، إلا إذا كانت القديمة مقرونة بوصفها مركز المدينة. فالأحياء تتشابه في كل أنحاء المدينة ولا يوجد في الرقة مدينة قديمة تشبه دمشق القديمة، أو حلب القديمة. وسور الرافقة أصبح مجرد بقايا أثرية منذ بداية ثمانينات القرن العشرين بعد أن تم هدم أجزاء منه لشق الشوارع الحديثة. وطال عمران السور الإهمال وفعل فاعل، فتآكل عموديا وأفقيا قبل ترميم ما تبقّى منه في منتصف الثمانينات من القرن الماضي. كما تم طمر الخندق العميق الذي كان يحيط بالسور من خارجه. وفي كثير من الكتابات عن الحرب على سوريا والعراق والكوارث التي تعرّضت لها المدينتان السُنيتان تم تصوير الأمر على أنه حرب إبادة ضد المكون السني العربي، على الرغم من ادعاء داعش تمثيل السنة والسعي إلى إقامة “دولة سنية” على منهج السلف الصالح، أو لأن الأمر كذلك. هنا نلحظ أن أغلبية الأكراد في سوريا ينتمون إلى المذهب السني، بالرغم من تبني حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي العقيدة الماركسية على غرار سلفه حزب العمال الكردستاني التركي. وهذه الملاحظة ليس فيها ما يؤكد أو ينفي وجود حرب على السنة، إلا إذا أردنا تأكيد فكرة حرب “الأقليات” على الأكثرية السكانية التي يُصادف أنها سنية. على كل حال، تعبير الأكثرية والأقليات معيار مدني وسياسي قد ينفع في الانتخابات وفي أجواء حرة أو ديمقراطية وفي حسابات مدنية لا دور للسلاح فيها. وقد تستطيع الأكثرية فرز أحزاب وقوى سياسية وزعماء مدنيين لكن الاصطدام بالسلاح يساوي دائما بين الأقلية والأكثرية باعتبارهما مجرد ضحايا. وبالطبع يساوي أصحاب التفكير المدني والعقلاني والإنساني بين الأكثرية والأقلية، ففي دولة يحكمها القانون لا تمييز بين فرد وآخر، ما يعني أن لا مكان لفكرة الأغلبية والأقلية. لكن في بلاد مثل بلادنا، وحتى في زمن السلم، حيث الحكم للقوة القاهرة المنفلتة من القانون، فإن حلم الفصل بين الدولة والمجتمع لا يزال بعيدا. وفي زمن قوة السلاح الميليشياوي تبدو الحسابات أكثر تعقيدا، حيث لا أهمية للفرد أو للأكثرية أو للأقلية، ناهيك عن استبعاد الحديث عن مجتمع باعتباره ترفا. كاتب سوري
مشاركة :