عندما اختبرت كوريا الشمالية الصاروخ الباليستي العابر للقارات هذا الأسبوع - أو ما أطلق عليه الرئيس الكوري الشمالي اسم «هدية للأميركيين الأوغاد» - كانت ردود فعل الإدارة الأميركية تقليدية إلى حد كبير.وقد وصف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون التجربة الصاروخية بأنها تصعيد. وأعرب عن نية الولايات المتحدة طرح القضية على مجلس الأمن الدولي. وأكد قائلاً: «نحن لن نقبل أبداً بكوريا الشمالية النووية».وإن كان هذا يبدو مألوفاً، فلأن عدم التسامح مع كوريا الشمالية النووية كان من ركائز السياسة الأميركية منذ اندلاع أول أزمة نووية في شبه الجزيرة الكورية أوائل عقد التسعينات. وحرمان نظام كوريا الشمالية من الحصول على الأسلحة النووية هو من الأهداف المثيرة للإعجاب، فتلك الحكومة يصعب للغاية تصور قدرتها على ضبط النفس مع امتلاكها أوسع سجون في العالم؛ تلك التي يمكن مشاهدتها من الفضاء الخارجي. وقبل بضع سنوات قليلة، كان يمكن لهذا الهدف أن يكون قابلاً للتحقيق، ولكن في عام 2017، فإن هذا الهدف «غريب للغاية» في أفضل حالاته، و«وهمي للغاية» في أسوئها.والحقيقة المؤسفة أن كوريا الشمالية باتت قاب قوسين أو أدنى، وبشكل خطير، من الحصول على السلاح النووي، ويدرك كل خبير تقريباً ممن درسوا المشكلة الكورية الشمالية أنه لا يوجد ما يمكن للولايات المتحدة فعله في هذا الصدد.وقد أصبحت كوريا الشمالية الآن أقرب بكثير إلى الحصول على السلاح النووي مما كان عليه الأمر عندما تفاوضت الولايات المتحدة بشأن اتفاق مؤقت ومعيب في عام 1994، والمعروف باسم «الاتفاق الإطاري المشترك»، لوقف التقدم على مسار إنتاج الأسلحة النووية.لقد تمكنت بيونغ يانغ بالفعل من تفجير المكونات النووية في 5 مناسبات مختلفة. وكان أول هذه الاختبارات في عام 2006، وآخر اختبارين كانا في العام الأخير من ولاية الرئيس (الأميركي السابق باراك) أوباما. وواصلت كوريا الشمالية أيضاً التقدم على مسار الصواريخ الباليستية. ولقد انطلق الصاروخ الأخير لارتفاع أعلى ولمسافة أبعد مما وصلت إليه الصواريخ السابقة. وليست إلا مسألة وقت حتى يبلغ نظام كيم جونغ أون حد الإتقان في هذه التكنولوجيا، إلى جانب المهمة «الأيسر نسبياً» من تصغير حجم المكونات النووية حتى تتناسب مع الرأس الحربي الصاروخي، ثم تعلن كوريا الشمالية عن امتلاك الصاروخ النووي العابر للقارات.وسوف تسلح كوريا الشمالية نفسها بالأسلحة النووية، بسبب إدراك النظام الحاكم هناك أن نجاته على الصعيد الدولي تعتمد على ذلك. وفي الجولة الأولى من المفاوضات، كانت هناك تهديدات حقيقية باستخدام القوة العسكرية ضد كوريا الشمالية. وكانت الصفقة المعروضة خلال الربع الأخير من القرن العشرين تدور في الأساس حول: سوف نسمح لكم بالنجاة فقط إن تخليتم عن طموحاتكم النووية.أما اليوم، فلم تعد هذه الصفقة مهمة لأي طرف من الأطراف. ولقد بعثت كوريا الشمالية بهذه الرسالة اعتبارا من الشهر الماضي إلى مجموعة من الخبراء الغربيين، الذين اجتمعوا بهم في السويد فيما عرف إعلامياً باسم «دبلوماسية المسار الثاني». ولقد أوضحت سو ماي تيري، المحللة السابقة في الاستخبارات المركزية الأميركية والخبيرة في شؤون كوريا الشمالية، الأمر لنظرائها في إحدى فعاليات «الجمعية الآسيوية» التي عقدت الشهر الماضي.قالت السيدة تيري: «شدد الجانب الكوري الشمالي مراراً وتكراراً على أن نزع القدرات النووية ليس من الخيارات المطروحة للمناقشة بأي حال. وإننا لا نخدع إلا أنفسنا إن اعتقدنا أن نزع سلاحهم النووي من الأهداف القابلة للتحقيق. لقد أعلنوا أن الأمر غير قابل للتفاوض. لقد انتهى النقاش حول هذه النقطة، وليس هناك ما يمكن المناقشة حوله بشأن هذه المسألة معهم».واستطردت السيدة تيري تقول إن نظراءها من كوريا الشمالية قالوا: «لقد اقتربنا كثيراً من استكمال برنامجنا النووي، ولقد اقتربنا كثيراً أيضاً من الانتهاء من ترسانتنا النووية وإتقانها. إننا لم نقطع هذه الطريق الطويلة لكي نتراجع عنها في نهايتها». وأضافت السيدة تيري أنهم ضربوا أمثلة بدول مثل ليبيا والعراق، وهي البلدان التي تخلت عن طموحاتها النووية كي تواجه مصير تغيير الأنظمة الحاكمة ثم «الدول الفاشلة» في نهاية المطاف.وليست السيدة تيري هي المقتنعة بمفردها عند هذه المرحلة بصعوبة نزع السلاح النووي عن كوريا الشمالية. فلقد أخبر ويليام بيري، وزير الدفاع الأميركي الأسبق في إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، مجموعة من الصحافيين الشهر الماضي في واشنطن أن أفضل ما يمكن للولايات المتحدة أن تنتظره الآن هو تجميد البرنامج النووي الكوري الشمالي، على غرار الاتفاق الذي تفاوضت إدارة الرئيس السابق أوباما مع إيران حوله. ولكن مرة أخرى، لن يسفر ذلك عن التراجع الحقيقي في التقدم المعتبر الذي أحرزه النظام الحاكم في بيونغ يانغ على هذا المسار. والأكثر من ذلك، أنه لا ينصح مطلقاً بشن هجمات عسكرية استباقية ضد ترسانة النظام الحاكم هناك، وذلك بسبب أن كوريا الشمالية لديها الآلاف من قذائف الهاون التي يمكن أن تمطر بها جارتها الجنوبية سيول، وبسبب أيضاً أن أي ضربة عسكرية لن تكون كافية للقضاء على البنية التحتية النووية بكاملها في البلاد.ولا يشعر السيد بيري بقدر كبير من التشاؤم مثل بقية الخبراء. فلقد أعرب مايكل أوسلين، الزميل البارز للدراسات الآسيوية المعاصرة لدى «معهد هوفر»، عن إحباطه البالغ؛ إذ قال: «المفاوضات لن تفيد في شيء».وأوضح السيد أوسلين موقفه بقوله إنه على مدى ربع قرن من الزمان، استغلت بيونغ يانغ المفاوضات في شراء مزيد من الوقت والحصول على مزيد من التنازلات من الغرب. ومن بين هذه التنازلات التي حصلت عليها كوريا الشمالية من المفاوضات هو رفع اسمها من على قائمة الولايات المتحدة للدول الراعية للإرهاب الدولي، ووصول شحنات الغذاء والوقود، والتعهد بإنشاء مفاعلات البلوتونيوم العاملة بالماء الخفيف، ورفع العقوبات الاقتصادية المنهكة لاقتصاد البلاد.وعلى الرغم من كل هذه التنازلات، فإن النظام في كوريا الشمالية مارس الغش والخداع حيال الالتزامات التي قطعها على نفسه. ولقد اكتشفت إدارة الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش الأمر في الولاية الأولى، عندما بلغها اعتزام بيونغ يانغ إقامة منشأة تخصيب اليورانيوم. وفي عام 2002 أقر مبعوث إلى كوريا الشمالية بالأمر في المحادثات، ومن ثم انسحبت إدارة الرئيس بوش من «الاتفاق الإطاري المشترك» الذي تفاوضت بشأنه إدارة الرئيس كلينتون مع كوريا الشمالية.والحقيقة الواضحة أنه ليست هناك اليوم خيارات سياسية جيدة بالنسبة إلى كوريا الشمالية. ومن المشكوك فيه نجاح أي محاولات لتغيير النظام الحاكم هناك. وحكومة الولايات المتحدة غير مهيأة ثقافياً في الوقت الراهن لإثارة حالة من التمرد الداخلي في هذه البلاد المنغلقة على ذاتها بصورة صارمة. كما أن الغزو العسكري لكوريا الشمالية سوف يكون ذائع الصيت داخل الرأي العام الأميركي اليوم، تماماً مثل أنباء مرض السرطان.ومن الممكن لبعض أشكال التخريب والهجمات الإلكترونية أن تؤدي إلى تعطيل القدرات النووية لكوريا الشمالية. ولكن ماذا عن العمل مع الصين؟ لقد اعترف الرئيس دونالد ترمب صباح الأربعاء الماضي في تغريدة له بأن رغبته في أن تمارس بكين مزيداً من الضغوط على بيونغ يانغ لم تفلح في شيء.ولقد أخبرني السيد أوسلين يوم الأربعاء الماضي قائلاً: «ليست هناك من إجابات وجودية جيدة بشأن كوريا الشمالية. إن الأمر لا يتعلق بالمفاوضات فحسب؛ بل إنه يتعلق بالتهديدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية الشاملة التي نواجهها». وأضاف عند هذه النقطة أن النظام قد انتهى من مرحلة التجميد واقترب من مرحلة الندية وجهاً لوجه مع الغرب.ليست هذه بالأنباء التي يود الأميركيون الاستماع إليها. إن أحلامنا كبيرة للغاية. ولكن في مجال السياسة الخارجية، من المهم التحلي بالواقعية وليس بالأوهام. أمام إدارة الرئيس ترمب فرصة للتعاطي مع الرأي العام الداخلي بطريقة لم تجربها أي من الإدارات الأميركية الأخرى من قبل، فإن أردنا فعلاً منع كوريا الشمالية من الحصول على الأسلحة النووية، فإن ذلك يتطلب الدخول في حرب، وإن كنا غير مستعدين للمضي قدماً على هذه الطريق، فعلينا التوقف عن التظاهر بأن الولايات المتحدة يمكنها تحقيق أهدافها من خلال مزيد من الحوار والمفوضات... فلن يُسفر الأمر عن شيء قط.* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»
مشاركة :