المتاحف في مسار متشابك بين وقائع الثقافة والعوالم الافتراضيّة

  • 7/9/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

الأرجح أنّه عند ذكر كلمة متحف، تتبادر إلى ذهن الإنسان العادي صورة قوامها مبنى رصين وكبير الحجم، وكلاسيكي الطراز، ذو كتلة ضخمة مسيطرة وأشياء مماثلة. وغالباً ما تؤدّي تلك الخيالات إلى رهبة من الدخول إلى المتحف، خصوصاً إذا احتوى عدداً كبيراً من المعروضات الغالية الثمن، موضوعة في صناديق زجاجيّة، لا تربط بينها قصص شيّقة أو حتى إيحاءات غامضة. هناك فارق في المخيلات أيضاً بين بنايات المتاحف القديمة والحديثة. في القديمة، تأخذ بنايات المتاحف أشكالاً مستمدةً من التراث، على نحو ما تراه الأعين في ثلاثة من أكبر المتاحف العربية وهي: «المتحف المصري» في القاهرة، و «متحف الفن الإسلامي» في القاهرة، و «المتحف اليوناني- الروماني» في الإسكندرية، وهي من أوائل المتاحف العربية. وفي المقابل، تميل المتاحف الحديثة إلى بنايات أكثر بساطة، وقاعات عرض أكثر رشاقة بمعنى التركيز على المعروضات التي توضع في إضاءة خافتة مدروسة تكفي لاكتشاف القطع المعروضة، كما يرافقها سيناريو للعرض يكتب ليكون على درجة عالية من الجاذبية والتشويق للجمهور. لذا يواجه مصمّمو المتاحف المعاصرة معضلة ليست بالهيّنة. إذ يفترض أن تكون تصميماتهم المعمارية معاصرة، وهو أمر يبدو معقداً إذا تعلّق بإنشاء متحف للفن المعاصر. وفي تلك الحال، يتوجّب على التصميم أن يتكامل مع ذلك النوع من الفن، ما يتطلّب إيجاد كثير من المساحات المحايدة داخل هندسة المعرض. ومن بين الأشياء التي أثارت دهشة كبيرة في العقدين الأخيرين، أنّ عمارة المتحف أصبحت عاملاً حاسماً في نجاحه، وليس بالضرورة محتوياته، على نحو ما كانه الأمر تاريخيّاً. وباتت التجربة العمليّة شاهداً على ذلك التحوّل منذ إنشاء متحف «غوغنهايم بلباو» الذي استولَد من الفن التجريدي تصميم بنايته الفريدة، خصوصاً لجهة ما تتضمّنه من مساحات وافرة للعروض التي ترافقها سيناريوات تفاعليّة مشوّقة تجذب زواره، بل إنها هي التي تشدّهم إلى الانخراط في تجربة تفحص مقتنياته المتنوّعة. في عصر تهيمن فيه معطيات شبكة الإنترنت، سيطر الواقع الافتراضي وعروضه على تفكير بُناة المتاحف المعاصرة، ما دفع بتساؤلات حول مسار مؤسّسة المتحف في المستقبل القريب أيضاً. وإذا نُظِرَ إلى ذلك الأمر انطلاقاً من تجربة بناء المكتبات الكبرى مثلاً، يتضح فوراً أن مبنى المستقبل في المكتبات ليس في حاجة إلى بنايات كبيرة فيه، لأن المكتبات تصبح حاضرة وتفاعليّة في العالم الافتراضي. في المقابل، ثمة تحفّظ على إسقاط تلك الخلاصة من المكتبة الكبرى إلى المتحف لأن الأخير لا يزال محتفظاً بدوره كمستودع حضاري أو صندوق للكنز، بمعنى أنّ جمع التراث المادي وحفظه يستمران في كونهما الوظيفة الرئيسة للمتحف. هل يعني ذلك أيضاً أن بقية الوظائف انتزعت من المتحف المعاصر أو المستقبلي؟   ثنائيّة الطبيعة والمجتمع الأرجح أنّ المتأمل للمشهد العالمي للمتاحف يرى أن أعداد المتاحف الفعليّة في تزايد مستمر بصورة غير مسبوقة. ولعل ذلك مردّه إلى أنّ عروض المتاحف تطرح أسئلة حتميّة حول ثنائيّات كالمعرفة والقوة، والهوية والاختلاف، والاستمرار وسرعة الزوال وغيرها. بمعنى ما، تنهض المتاحف بوظائف رمزيّة متنوّعة، تتصل كلّها بالتعبير عن حال المجتمع الذي ينهض ببنائها. وبصورة دائمة، مثّلت الطبيعة مصدر الإلهام للمصممين المعماريين للمتاحف، نظراً لإدراكهم أنّ بيئة المتحف لا بد أن تتعاطى مع مجتمعها، بل إنّ هوية المجتمع يجب أن تتجسّد في عمارة متاحفه. وبذا، انفتح المجال لإضافة بُعدين في هندسة المتحف. ومثّل الجمال البُعد الأول، بمعنى ضرورة تكامل عمارة المتحف مع مفاهيم الجمال في ثقافة المجتمع المحيط به. وجسّدت الواقعيّة البُعد الثاني، ما يفسر واقع تعاطي المتحف مع المكوّنات المحيطة به إلى حدّ جعله واقعاً مُدركاً بصورة تلقائيّة وبديهيّة، من قبل السكان والزوار على حدّ سواء. هناك نموذج كثيف الدلالة عن المعطيات الآنفة الذكر يجسّده متحف «تي بابا تونغاروا» Te Papa Tongarewa، وهو «المتحف الوطني النيوزيلندي» New Zealand Naitonal Museum. وإذ صمّمه المكتب المعماري جاسمكس، عمل على توجيه المبنى صوب الوجهة البحرية في مدينة ويلنغتون، وهو أمر له أهمية ثقافية كبرى. وفي نيوزيلندا، يرتبط المنظر الطبيعي جوهرياً بالسكان الأصليين المنتمين إلى إثنية «ماوري». وفي تاريخها، يبرز الحفاظ الدؤوب والأساسي على العلاقة المتوازنة مع البيئة. ولذا، تتخذ منازل الـ «ماوري» مواقعها مع الحفاظ على وجهة تكون بمحاذاة خاصية طبوغرافيّة حاسمة، كأن تكون جبلاً للتعبّد أو مكاناً مقدساً أو منظراً طبيعياً أساسياً أو غيرها. واستطراداً، تكون تلك المنازل على تفاعل مستمر مع ترتيب العالم الواسع اللامتناهي حولها، كما يعبّر عن خيالها عن الكون بمعناه الواسع تماماً. رؤية استراتيجيّة لمتاحف المستقبل هل يملك العرب رؤية حول متاحف المستقبل، بمعنى أن تكون معبّرة عن رؤية المجتمع للتراث ومفهومه له؟ إذا تم التفكير الآن في متحف للسيارات يفتتح بعد عشرين عاماً، يفرض الأمر ضرورة الشروع في اقتناء الطرز القديمة منها، بل تكوين مجموعات تصلح للعرض بعد عشرين سنة، خصوصاً أنّ صناعة السيارات تتطوّر في شكل متسارع. وفي ذلك المعنى، يفرض التفكير في متاحف المستقبل البدء عربيّاً بالتخلي عن عادة تخلّص المؤسّسات عن أشيائها كلما تقادمت. وهناك مثل آخر. في ظل التحوّل من الورقي إلى الرقمي، هناك مجموعات كثيرة من الكتب العربية المطبوعة صارت نادرة، خصوصاً تلك التي ظهرت عند بداية زمن طباعة الكتب بالحرف العربي. والأرجح أن أوائل المطبوعات العربية صارت بقيمة المخطوطات اليدويّة، وهو أمر تنبّهت له مؤسّسات كـ «مكتبة الإسكندرية» و «مركز جمعة الماجد» في دبي وغيرهما. ومن الأمثلة على بدايات الطباعة العربيّة التي تسير نحو الندرة، تبرز مجموعة كتب «مطبعة بولاق» المصرية، خصوصاً كتب «ألف ليلة وليلة»، و «صحيح البخاري»، و «تاريخ الجبرتي»، و «القاموس الإيطالي- العربي»، و «مجلة روضة المدارس»، و «خلاصة الأفكار في فن المعمار»، و «الخطط التوفيقيّة» وغيرها. وبات ثمن بعضها يفوق ثمن المخطوطات اليدويّة العربيّة التي ترجع إلى القرن السابع عشر الميلادي. وهناك مجموعات كتب من القرن العشرين ربما تسير على المنوال عينه، خصوصاً الطبعات الأولى لمؤلفين كنجيب محفوظ، وحمد الجاسر، وجواد علي، وعبدالعزيز الدوري، وعباس محمود العقاد وعبد الحي الكتاني وغيرهم. وربما مثّلت تلك الكتب تحديّاً مطروحاً أمام متاحف المستقبل في العالم العربي. وربما انطبق أمر مماثل على بناء مخزون متحفي لأشياء نستخدمها حاضراً، وهي تفيد في متاحف المستقبل كي تشرح للأطفال مسار تطوّر الأشياء. في ذلك الصدد، تبرز ظاهرة توسّع الأوروبيين والأميركيين في متاحف تاريخ العلوم والتكنولوجيا، خصوصاً تلك الموجّهة أساساً للأطفال، إذ تجيب تلك المتاحف عن آلاف الأسئلة التي تراود الأطفال لكنهم ربما لا يبادرون إلى طرحها. واستطراداً، تساهم تلك المتاحف في صنع إجابات عمليّة عن أسئلة ربما تسهّل تعامل الأطفال مستقبلاً مع الفيزياء والرياضيات والكيمياء وغيرها. واستطراداً، تعني تلك المعطيات أنّ شأن المتاحف لا يتّصل بالماضي وحده، بل يتعلّق بالمستقبل وأجياله أيضاً. وحاضراً، هناك متاحف مكرّسة لأشياء متنوّعّة في الحياة اليوميّة كمتاحف الطعام والأزياء والأحذية والملابس وغيرها، بل هي تروي قصة تطوّر كل منها. وتنجح تلك المتاحف في اجتذاب اهتمام المواطن والسائح، كما توفّر دخلاً مجزياً للدولة. تراث عربي في استخدام الفراغ المنزلي حتى وقت قريب، كانت عروض المتاحف معتمدة على أنواع التحف والمقتنيات أو عصرها. وتدريجيّاً، انتقل التركيز في العروض إلى تقديم قصة عن عصر المقتنيات أو طريقة صناعتها أو طرازها الفني أو أسلوب الحياة المتصل بها. واستطراداً، بات بمستطاع مرشد الزوار في المتحف أن يروي لهم قصة مشوّقة عنها، كتقديم قطع أثاث منزل إسلامي أو شرح عن أسلوب الحياة فيه. وتالياً، صار متاحاً التوسّع في تبيان الذوق العام للمسلمين في تأثيث منازلهم واستفادته من تعددية وظائف الفراغ، وهو ما يتعاكس مع المفهوم الغربي الذي يثبّت الفراغ لوظيفة واحدة، كاستقبال الضيوف أو النوم. استطراداً، تحتاج الثقافة العربيّة إلى بناء متاحف، لكنها في حاجة أشد إلى بناء فلسفة عربية لعلم المتاحف، تشمل رؤية عربية في التعامل مع المتاحف بطريقة تجعلها مؤسُسات تفاعليّة في العلوم والثقافة. وتالياً، تستطيع تلك المتاحف تقديم معارف للمجتمع تقوده من الماضي إلى المستقبل. ويجدر التخلي عن نظرة عربيّة سائدة عن المتاحف تتعامل معها بصفتها مؤسّسات مغلقة، تنتظر طوابير زوارها من دون أن تتفاعل معهم. ويفترض أيضاً أن تهتم المتاحف العربية بتكاملها مع مواقعها الافتراضيّة على شبكة الإنترنت التي تعرض مقتنياتها بأبعادها الثلاثيّة. وفي أزمنة سابقة، رفض المختصون عرض مقتنيات المتاحف في العوالم الافتراضية، لكن التجربة أثبتت أن الأخيرة تساعد على جذب مزيد من الجمهور للمتاحف الفعليّة. وحاضراً، تحرص مجموعة من المتاحف على التكامل مع مواقعها الشبكيّة، بل تستخدمها في عرض مجموعات من المقتنيات المتناثرة فعليّاً، لكنها تظهر متجمّعة في الفضاء الافتراضي. إذا كان لدى «المتحف البريطاني» قطع من حضارة السومريين، مع وجود أخريات في متاحف فرنسا واليابان وأميركا، بات في إمكان «المتحف البريطاني» أن يجمع القطع المتناثرة مع مقتنياته من تلك الحضارة عينها. والأرجح أن ذلك يجذب الباحثين ودارسي التاريخ والحضارة الإنسانية، إضافة إلى السياح والزوار. وأخيراً، بدأت بعض الجهود العربيّة تثمر في ذلك المجال بعد تأسيس «المجلس العربي للمتاحف» («أيكوم العربي») الذي ضمّ نخبة من المختصين في ذلك المجال. وهناك سعي لتأسيس شبكة عربيّة للمتاحف، خصوصاً مع تزايد الوجود العربي في «المجلس الدولي للمتاحف». ويصعب التغاضي عن خسارة كبيرة للعرب في متاحف العراق أثناء الغزو الأميركي عام 2003. وجاءت معاول الهدم التي أعملتها أيدي الدواعش في متاحف العراق، لتزيد خسارات العرب في المتاحف.     * كاتب مصري.

مشاركة :