اللهجات تدفع البعض للفخر وتسبب للبعض الآخر القهر تعتز غالبية الشعوب العربية بلهجاتها وتعدّها هوية ملاصقة لوطنيتهم وطريقة تعرف بهم أمام الآخرين، ولكنها قد تكون أحيانا سببا في التحيّز ضدهم. وعند فحص البعض من الأسباب الكامنة وراء تغيير البعض للهجاتهم، نكتشف مجموعة من الأحكام المسبقة والمعتقدات التي لا تعني أنها بالضرورة صحيحة ويجب تصديقها. وتؤدي الافتراضات المبنية على أسس لغوية إلى عرقلة الكثيرين للحصول على فرص عمل، وأحيانا تعرضهم إلى السخرية والتهكم، لا لشيء سوى لأن لكنتهم مختلفة. ويتردد سؤال مثير حول سبب تنازل البعض عن لهجتهم بسبب الحاجة للوصول إلى فرصة عمل أو التخلص من النظرة السلبية للآخرين أو تحقيق هدف معيّن، فهل التخلي عن اللهجة لجملة هذه الأسباب هو تنازل بالضرورة عن الهوية وتنكر للجذور؟ رغم انتشار وسائل الإعلام والمحطات الفضائية وتلاقي اللهجات العربية بطريقة جعلتها أكثر قربا لبعضها البعض، وصار المواطن الخليجي مثلا يعرف أحيانا أدق مفردات المغاربة، لكن هل يتنازل المواطن في المغرب العربي مثلا عن لهجته للتحدث بلهجة خليجية من أجل الحصول على فرصة عمل، أو للظفر بقلب امرأة؟ ذلك موضوع اختلاف وبنسبة أقل اتفاق بين نسبة كبيرة من العرب. ولفتت الانتباه الفنانة اليمنية بلقيس فتحي في حوار تلفزيوني عندما تحدثت فيه ببراعة نادرة بعدة لهجات عربية في إجابة عن أسئلة مختلفة، فعندما تحدثت باللهجة اللبنانية أو العراقية أو الإماراتية كانت كأنها ابنة البلد، وقد تكون بلقيس أنموذجا نادرا لأنها مغنية وعليها تعلم اللهجات على أصولها من أجل الغناء بها، لكن الأمر يختلف عندما يتعلق بالمواطن العربي. ولم يجمع مواطنون عرب على الاتفاق بشأن التحدث بلهجات غيرهم، وعبّروا عن اعتزازهم بلهجاتهم وعدم التنازل عنها إلا عند الضرورات القصوى. وتمنى الشاب التونسي حمدي خزري (بصدد البحث عن شغل) لو يستطيع تغيير لهجته إن كان ذلك سيقضي على ثقافة الجهويات والكراهية والتفرقة بين سكان الجهات في بلاده، ويعيد وحدة المجتمع التونسي وتآزره. وقال خزري إن “تونس غير مجزأة فهي بلد واحد، ولكن عبارات التهكم والسخرية التي يطلقها أحيانا البعض من سكان العاصمة والسواحل التونسية على لكنات الجنوب والشمال الغربي هي في حقيقة الأمر تغذي العداء والصراع بين أبناء الوطن الواحد”. وأضاف “أتمنى لو أستطيع أن أوحد اللهجة التونسية لعل التمييز الذي يمارسه السياسيون أيضا ينتهي ويشمل منطقة الشمال الغربي والجنوب جزءا من التنمية، ولكن المؤسف أنني لا أستطيع لا توحيد لهجات الناس ولا تغيير لهجتي التي هي في صلب تكويني وحولها تدور شخصيتي”. وعلى الرغم من إدعاء البعض بالانفتاح العقلي وبتقبل الآخرين على شاكلتهم، إلا أن معظم الناس يفضلون من يتحدثون بنفس لكنتهم، ويعتبرون في الغالب أن اللهجة التي يتحدث بها سكان العاصمة هي لهجة المتحضرين وأصحاب المكانة الاجتماعية المرموقة، لكن ليس جميع الأشخاص متحمسين لإجراء تغييرات على لهجتهم نزولا عند ما يعتقده غيرهم عنهم. أما في المجتمع العراقي الذي تتعدد فيه اللهجات طبقا لتعدد اللغات، فتغيير اللهجة غير مطروح بالنسبة للأشخاص الذين مازالوا يسكنون في المدن العراقية ولم تدفعهم الطائفيه والهجمات الارهابية إلى الهجرة، في حين اضطر البعض ممن تركوا العراق واستقروا في دول عربية أخرى، وخاصة فئات الشباب إلى تغيير لهجتهم، إما بدافع الرغبة في الاندماج في أوطانهم البديلة وإما نتيجة احتكاكهم بالناس في مجتمعاتهم الجديدة. وقال الشاب العراقي عمر الذي اختار عدم ذكر لقبه العائلي، إن عائلته هجرت العراق لتستقرّ في العاصمة اللبنانية بيروت منذ كان في العاشرة من عمره، مشيرا إلى أن والده في السنوات الأولى من الغربة كان يحثهم على الحفاظ على لهجتهم العراقية باعتبارها تشكل الهوية الحقيقية لهم. وأضاف عمر موضحا “حاولنا أن نحافظ على لهجتنا العراقية ولكن الاحتكاك بالناس في لبنان جعل لهجتنا تتغير تلقائيا، ونحن في الحقيقة لم نخسر لهجتنا الأولى بل اكتسبنا لهجتين”. وفي البعض من المجتمعات تتسبب اللهجة في مضاعفات نفسية شديدة الأثر على الكثيرين، وخاصة في المواقف التي يتعرضون فيها للسخرية والتهكم مما يجعلهم يحكمون على لهجتهم بنفس القسوة التي تميز حكم الآخرين عليها، وهذا من شأنه أن يبقي على الاعتقاد الخاطئ بأن لهجتهم بحاجة إلى التغيير. ولكن لا يبدو أنه من السهل على المصري أحمد ذاكر علي حسين (فني كهرباء) استخدام لهجة جديدة في الشارع والتخلي عنها بمجرد الدخول للبيت كما فعل الكثيرون. وقال حسين “أنا بطبعي أتحدث دون تكلّف أو تصنّع، ولكن مهما يكن من أمر فأنا لست مستعدا لتغيير لهجتي، لأن لهجتي جزء لا يتجرأ مني”. sarab/12
مشاركة :