سعت الدول في المنطقة الخليجية إلى إعادة صياغة البنية السكانية في المجتمع، وهذا بدوره أدى إلى تقلص إن لم يكن شبه زوال لحياة التنقل في البادية، حيث وضعت الأسس الكفيلة بتأمين المساكن لهم، غير أن هذا الانتقال واكبته أمور أخرى ليست بالحسبان كانتشار الجريمة وانتشار التسول وزيادة المتسكعين في الشوارع، وأوجد حالة من التفاوت الطبقي في المجتمع، أما من نواح أخرى فقد كثرت الازدحامات في المدن وتراكمت النفايات في الشوارع وازداد الضجيج وتلوث الهواء.هذا الوضع جعل شاعراً من الشعراء ينتبه في بدايات هذه الطفرة إلى أن الأوضاع تسير في غير اتجاهها الصحيح، مما دفعه للحنين المبكر إلى أيام العيش في البيوت المصنوعة من الأخشاب والتي تعرف بـ «الصنادق» أو «العشيش»...يا قميص وبنطلونيا تحية العلميا «مع حمد قلم»يا «لإلاف قريش»و«قل هو الله أحد»كانت الجهرا عشيشوكانت البلد بلدهذا الكلام لفهد عافت ناقوس خطر ضربه الشاعر في جدار الوعي الذي لم ينتبه له ولم يحفل به حيث كان الجميع منبهرين بهذا الانتقال إلى بيوت مسلحة لا يخاف الساكن فيها من البرد، ولا يخشى من شدة الرياح العواتي ولا يتضجر أصحابها حين هطول الأمطار عليهم بغزارة.لقد ذهب حنين فهد عافت سدى ولكن هذه الكلمات ظلت محفورة في الذاكرة كل تلك السنين كالنقش المحفور على لوحة فرعونية قديمة زال من كتبها وهي ما زالت شاخصة رغم السنين.هذا الحنين الذي أطلقه فهد عافت لم يركز فيه قائلة على بشاعة الحضارة المدنية، بل كان توقًا إلى زمن ولى وفات وصار في ذمة الزمن، هذا الحنين إلى مدرسة لم تعد حاضرة، غابت كما غاب ذووها وزالت كما زالت «العشيش» التي كانت تنتشر في كل مكان، غير أنه في نص آخر يعكس هنا صورة بشعة لهذه الحضارة المدنية التي جعلت الإنسان وحيداً يسير في الطرقات:بغيت أرمي بعض حمليعجزت ألقى صديقإلا الرصيف وبارد الإسفلتشعور بالوحدة والغربة في عالم الضجيج، هذه هي المدنية التي نقلت الإنسان من القرية والبادية أو نقلته من بيوت «الصنادق» أو «العشيش» ونقلته إلى الشوارع والأرصفة والضياع والعيش بلا أنيس أو رفيق في أجواء المدينة، هذا هو فهد عافت لا يجد من يشاركه حِمْله ولا يقاسمه همومه لأنه بلا رفقاء لأن الجميع قد سلبتهم المدينة من أنفسهم ومن الناس. فلا يجد إلا الرصيف والإسفلت البارد كإشارة إلى أن الأبواب مغلقة عنه وغير قادر على الاحتماء بها من الصخب والضجيج لأنه مشتت ومشرد بين الشوارع يفترش الإسفلت ويسند جسمه على الرصيف في المدينة التي تضج بلا حياة وتتنفس الهواء الملوث:وإذا ما شابه المعنى عيونيعاذرك... خوني:ولكن آه لو تدرينعن طعم الثواني في غيابكعن لهاث الضو في الشارععن دفتري/عن جلسة المقهى بلا... أصحابفي المقاطع الشعرية الثلاثة لفهد عافت نلمح فيه حنينًا لكنه حنين للطفولة، وهذا الحنين مشبع برغبة عدم الكبر وأن يظل صغيراً كما كان في السابق، طفلاً لا يلوي على شيء ولا يفكر إلا بأشيائه الصغيرة من قميص وبنطلون وذهاب إلى المدرسة لأنه حينما كبر أحس بأنه لا أحد حوله، ولا رفيق له إلا الشعر الذي رمز له بالدفتر، وهو جالس في المقهى وحيدًا بلا أصحاب، ولا أحد حوله إلا الضوء اللاهث في الطرقات والشوارع باحثًا عن لا شيء،هذا الهاجس نراه عند عمري الرحيل الذي قال «قلبي مدينة حزن»، لأن الحزن مرتبط بالمدينة ارتباطاً وثيقاً، وهذا ما سنلاحظه في نصوص الشاعر ذات الصلة بهذا الموضوع:أمس.. وأنا أضمد جروحي يا أهازيج المدينةصحت في نشوة تبين الجرح وإلا ما تبينهيظهر الخلاف بين حال الشاعر وحال المدينة، هذه المدينة التي تسهر على الأهازيج والطرب، تاركة الإنسان يواجه المصير وحده، حيث إن الشاعر يعاني من الجروح «وأنا أضمد جروحي» الأمر الذي أوصله للإحساس بنشوة هذه الجراح وذلك أن مداومة المعايشة مع الألم جعلته يتأقلم مع هذا الهاجس وهذا الشعور «صحت في نشوة تبين الجرح» نظراً لحدوث هذا التوافق بين إنسان هذا العصر والحضارة المدنية.هذه الحضارة التي أصبحت مرادفة في عرف عدد لا بأس به من الشعراء للخوف والألم والتشرد وسلب الحياة من البشر، وهذا ما كان مع الشاعر عمري الرحيل، وهذا ما ولد عنده عدم الانسجام بين إحساسه الداخلي وحال المدينة التي تعيش على الفرح والأهازيج، وذلك من أجل تعميق هذه الفجوة التي يشعر بها الشاعر بينه وبين الحضارة المدنية، مع العلم أن المدنية العربية لم تصل حدّا من التعقيد مما يجعلها تشكل كل هذا الخوف أو هذه البشاعة وفق ما يصوره العديد من الشعراء، لكنها نزعة الشاعر وإحساسه الكامن فيه تجاه هذا الغريب الذي اقتحم الحياة العربية التي كانت متناغمة مئات السنين مع ظروف القرية وأحوال البادية.
مشاركة :