قضى بعضاً من وقته واقفاً أمام المرآة، يُنمق هندامه الصباحي، وكان لشماغه الجزء الأكبر من التنسيق، بخ عطره الباريسي على أرجاء ثوبه، ومضى بسيارته المرسيدس لمكتبه في تلك الدائرة الحكومية الضاجة بالموظفين الكُثر، جلس على مكتبه الفاره وبجانبه كوبٌ من القهوة المُرَّة، التي تُساعدهُ في بدء يوم حافل بالإنجاز، تناول سماعة الهاتف وأنهى اتفاقه مع أحد الموظفين في دائرة أخرى، ليتمم له أمراً غير نظامي مُقابل دفع مبلغ من المال (دهن سير) كما عبر عن ذلك، أنهى لقاءه مع أحد المراجعين المُسنين، ودون أن يرفع طرف عينيه عن جريدته اليومية، برفض معاملته، خاتماً حديثهُ: راجعنا بكرة، فمعاملتك غير جاهزة، رغم أن هذا الرجل يتلقى ذات الرد منذُ شهر مضى في كل مرة يُراجع لإتمام معاملته، وفي الأواخر من شهر رمضان حرص هذا المُوظف على أن يقضي إجازته في الحرم المكي مُنعماً بأجوائه الروحانية المُفعمة بعبق الرحمات والبركات، ولم يتوانَ عن دفع قدر من المال لأحد دور الأيتام في منطقته، وكان حريصاً كنهاية كل عام على أداء مناسك الحج، يتكرر هذا المشهد في أكثر من مكان، ربما تختلف التفاصيل لكنها تحمل المضمون ذاته. ربما يلتبس على البعض أن الحقوق العامة ليست ضمن نطاق عملية فرز الأوراق على المستوى الشخصي، فالموظف الذي يتقلد مساحة من المسؤولية المرتبطة بمنظومة أداء عام ليس في مأمن عن المُحاسبة الدقيقة التي تبدأ من الذات مروراً بمستويات أعلى وأكثر اتساعاً في رقعتها، وما يجب الالتفات له هو أنه لا يجب الخلط بين سلوك الموظف وأدائه في العمل، فالمفهومان لهما من الأثر المُختلف في الأثر والتأثير؛ إذ يرتبط الأداء بنتاج العمل أكثر من السلوك للموظف، وما تصبو له المنظمة من أهداف مُحققة من خلال المُديرين والعاملين فيها، ومن خلال النموذج السابق نجد أنه تم تحقيق هدف شخصي بدل الأهداف الوظيفية التي تم تحديدها من منظمة العمل، وغالباً ما يتم الربط بين الأداء في العمل بالكفاءة والفعالية، ومما لاشك فيه أن عامل الرضا الوظيفي لا يُمكننا إقامة عملية عزل بينه وبين إنتاجية الموظف وأدائه؛ إذ يعزو بعض من علماء النفس مثل هذه التجاوزات أثناء المهمة الوظيفية لعدم الرضا الوظيفي، فهو في هرمية العوامل المؤثرة على المُنتج من خلال أداء الموظف، على الرغم من أن ضعف الأداء الوظيفي وإنتاجيته ترتبط أيضاً بالتكوين الشخصي للموظف، والمستوى الثقافي، واللمحات الشخصية الممتدة من البيئة، وسماتها التي تداخلت في تكوينه السلوكي الممتزج بالفكر العملي، فالمُعادلة هي أن مُحددات الرضا تُفرز إشارات ضوئية لأصحاب القرارات العُليا في تلك المؤسسات، كما أن إشباع حاجات العاملين هي بوابة الإنتاج الفعلي والمُرضي لتلك المؤسسات، وهنا لابُد من إدراك أمر مهم جداً ألا وهو أن هذه الاحتياجات ليست بالضرورة تنحصر ضمن الدائرة المادية من زيادة في الراتب أو الحوافز وإن كانت هي كذلك لدى السواد الأعظم نجد لدى البعض تتقدم الحاجة للتقدير والتكريم المعنوي على الحوافز المادية، لكننا نتفق جميعاً أن نظام الترقيات والحوافز في المؤسسة هو المؤشر الأقوى لذلك، وفي حقبة مضت من التاريخ، كان لمدرسة العلاقات الإنسانية مُبادرة عملية من خلالها تم انتهاج منحى العناية بالعلاقات الإنسانية كمُحرك ووقود لزيادة وفعالية إنتاجية الموظفين، فكانت المحصلة الإنتاجية في تصاعد، فمركزية الاهتمام بالموظفين بوابة تتسع لتشمل الانخراط في البيئة الوظيفية والوسط العمالي، وذلك بتبني همومهم والسعي لحل العراقيل التي يتعثر بها مسارهم في الأداء، هذا بالإضافة إلى إشراكهم في مهام الإدارة والإشراف، ومنح مساحة من التساهل المُطعم بنصح الموظف وإرشاده، ولم يُهمل جانب الإشباع المادي؛ إذ لا فاصل بين الجرعات المادية والمعنوية التي تم تزويدهم بها، مما دفع بالموظفين لزيادة عطائهم في الأداء الوظيفي بروح معنوية عالية، وهذا ما ساهم في ارتفاع إنتاجية العمل. ومن زاوية أخرى انطلاقاً من نموذجنا السابق، نطرح تساؤلاً.. ما الرابط بين هذا التعدي الوظيفي اللاأخلاقي والمخالف للقيم الإنسانية العُليا، وبين التوجه الديني الذي يُعتبر رافداً للقيم والأخلاق الإنسانية، وختم به ذاك الموظف تجاوزاته؟! ربما هو الفهم المغلوط للدين، ومُغالطة الذات بإيهامها بفعالية عملية «غسيل الذنوب»، بالقيام بالأعمال العبادية المُستحبة والأعمال التطوعية والخيرية لمسح ذنوب مضت واستحضار حسنات تُثقل الميزان. وختاماً.. فالنماذج المُتخلقة بالقيم الإنسانية كثيرة، وما ذلك النموذج وشاكلته إلا شوائب طفت على بعض المساحات التي تضم كثيراً من العينات المُشرفة والناهضة بالبيئة العاملة نحو العطاء والتميز، وما يُخالف القيم ويهمش الضمير من تجاوزات حتماً تنبذها الأمم والأزمان ضمن المنظومة الإنسانية بفطرتها.
مشاركة :