نوف الموسى (دبي) تعبر الأزقة الباريسية، بين مقاهي الفن والفنانين، تجالس بيكاسو، وهو يرسم مخطط لوحة فنية قادمة، مستلهماً من أدخنة السجائر المتصاعدة أبعاداً تكعيبية، وفجأة ينتظم فنان مغمور في المشهد، ويهدي أناس المقهى وروداً جوريَّة، يوحي إليك بالجنوح التام للحظة المسكونة بالجمال، فهو كالباحث عن الروح في شاعريتها القصوى. وبرغم شهرة بابلو بيكاسو في تلك الحقبة التاريخية، إلا أن الفنان الإيطالي أميديو موديلياني، من خلال فيلم سيرته الذاتية «Modigliani»، الذي صدر في عام 2004، يستدرجك إلى عوالمه اللامتناهية، التي تسببت شهرة بيكاسو، في نزوحها للبعيد نحو حرية الانفتاح على كل شيء، وتأكيد التحدي الإبداعي والتحول عبر سؤال الفوضى، المدفوع بالانفتاح على الأدب الفرنسي الرفيع، ومجاراة الفلسفة بقراءات     لنيتشه وبودلير. فيما ظلت القصيدة مصدر الوحي المتكامل، وسر الشاعرية الفنية لموديلياني. مشاهدة فيلم المخرج ميك دافيس، تطلعك على سحر أميديو، وهو يرسم الوجه، خاصة وجه عشيقته ثم زوجته جان، وقدمت دورها الممثلة إلسا زيلبلسترين، بينما تفوق كعادته الممثل اندي غارسيا، في الوصول بالفنان موديلياني، لأعلى ذروات النشوة الفنية، التي جعلت منه في مواجهة تامة مع نفسه. «الأعناق الطويلة» في أعمال أميديو موديلياني، تستمر في جدليتها وغموضها اللافت، وأظهر الفيلم في بعض مشاهده تدخل أم في لوحة أميديو موديلياني وهو يرسم ابنتها الصغيرة، ومناقشته حول طول الرقبة. ويقرر وقتها أن يترك الفنان أميديو موديلياني، رسم اللوحة ويخرج من البيت، إيماناً منه بأن موقف الأم نابع من جهل بالفن وجماليته. ويستمر المشاهد للفيلم، في متابعة بحث الفنان عن الروح، تلك التي صرح حولها لجان، من رسم وجهها دون أن يرسم عينيها، وأخبرها أنه سيرسمهما، عندما يلمس روحها، وفعلاً هذا ما حدث، ففي المسابقة الشهيرة التي فاز بها الفنان أميديو موديلياني، على الشهير بيكاسو، أنجز موديلياني رسم عيون جان برفاهية متقنة، إلى جانب عنقها الطويل وجاذبيتها المذهلة. فمن يشاهد اللوحة الفاتنة يؤمن بالقدرة الشاعرية، في حياة الفنان الإيطالي أميديو موديلياني، فالمتذوق للحياة في تطلعاتها الذاتية وكينونتها الفردية، يسعى إلى التحول في اللوحة، ولا يكتفي فقط بالرسم، وإنما إلى الحرية بأبهى أشكالها وتطلعاتها، فقصته مع حبيبته جان، ملحمة من التجليات والصراعات انتهت بانتحار جان بعد وفاة الفنان موديلياني. كأنك تستمع إلى أغنية الفرنسية إديث بياف، بل أكبر من ذلك، تتجرد من أفكارك وذاكرتك وهويتك، تقف كالناظر إلى المرآة، وتتأمل تفاعل الفنان أميديو موديلياني، مع لوحته الأخيرة، مع ذاته، مع اكتماله، مع اتصاله الكوني لمصدر الجمال على الأرض، كل شيء في المشهد يرقص، عيناه يداه، قلبه، وروحه، وقتها تلاشى المكان، وارتحل موديلياني إلى أعلى الازدهار الروحي، لا يمكن أن تفوت مشهد الولادات الصغيرة، وإلى جانبها لحظات الموت الصغيرة، دونما انبهار يتجلى في كل أنحاء قدرتك على الانصهار كمشاهد يتحسس روحه الأصيلة.
مشاركة :