أُم المؤمنين مارية بنت شمعون القبطية

  • 7/14/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

هذه قصة أحبها جداً، ولا أملّ مِن تأمل دقائقها، محاولاً فهمها وتصورها، وهي قصة أو حكاية أم المؤمنين السيدة مارية بنت شمعون (رضي الله عنها). أعرف كما تقول المصادر العربية أنها من قرية بجنوب مصر من كورة "أنصنا"، وعند اليعقوبي أنها "كفر من أعمال أنصنا بالبر الشرقي من الصعيد في مقابلة الأشمونين". ويقال إن تلك القرية هي التي تعرف الآن باسم "الشيخ عبادة"، التي تتبع مركز ملوى بمحافظة المنيا، وأنها كانت تسمى "أنطونية" في العصر الروماني. وكما في "القاموس الجغرافي للبلاد المصرية" لمحمد رمزي بك فإن سبب هذه التسمية أن الإمبراطور الروماني هادريان بنى في المكان قبراً لابنه "أنطونيوس" الذي غرق عندها في النيل. المهم أن القرية ما زالت باقية وبها آثار كثيرة من عصور مختلفة، ويزعم أهل القرية أن من هذه الآثار بقايا البيت الذي وُلدت فيه السيدة مارية (من أب مصري وأم رومية)، وأنها عاشت فيه فترة قبل أن تنتقل وأختها سرين لقصر المقوقس في الإسكندرية. والحقيقة عندما أتأمل المعلومات القليلة جداً التي وردت في المصادر العربية عن السيدة مارية تخطر ببالي أسئلة كثيرة لا أجد لها إجابات، حتى الآن على الأقل! فكثيراً ما سألت نفسي عن أبويها، وعن سبب انتقالها من الصعيد إلى الإسكندرية، لقصر الوالي الروماني الذي يعرف في المصادر العربية بلقب "المقوقس"؟ وكيف وهي من عامة الشعب تصبح أَمَة تُهدى أو تباع؟ وهل كانت متعلمة أم لا؟ وماذا كانت تصنع في قصر المقوقس بالضبط؟ من هذه الحقبة نعرف من المصادر العربية أنه في سنة 658 م (7 هـ) وصل مبعوث النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) يحمل رسالته إلى "المقوقس" يدعوه فيها إلى الإسلام. وكما نعرف فإن المقوقس رفض الإسلام، ولكنه أهدى إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) عدة هدايا منها: "مارية وأختها سيرين، وألف مثقال ذهباً، وعشرون ثوباً ليناً، وبغلته دلدل، وحماره يعفور، ومع ذلك عبد خصيّ يقال له مأبور". ولا نعرف كيف تقبلت السيدة مارية هذا التغير الدرامي في حياتها؟ وما هي مشاعرها وهي تترك مركزاً حضارياً كالإسكندرية، ثم تترك مصر كلها، وتقطع الصحراء حتى تصل إلى جزيرة العرب؛ حيث لا تعرف الناس ولا التقاليد ولا طريقة المعيشة. عند الواقدي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنزلها وأختها على أم سليم بنت ملحان، وأنه عرض عليهما الإسلام فأسلمتا هناك. ولا أدري كيف حدث هذا؟ أكان من خلال مترجم؟ أم أن السيدة مارية كانت تعرف بعض العربية؟ وهذا السؤال بالمناسبة ليس غريباً؛ لأننا نعرف من بارتولد أن المدن القبطية في مصر العليا كانت نصف عربية منذ زمن استرابون حتى القرن الميلادي الأول، وأن هذا كما قال كان أحد أسباب سهولة فتح مصر، فهل كانت السيدة مارية تعرف العربية أو بعضاً منها؟ ولمَ لم يحدثنا أحد عن هذا؟ هل رأوها كأمة لا تستحق أن تُروى حكايتها أم أن وجود النبي (صلى الله عليه وسلم) ونزول الوحي ألهاهم عن كل شيء آخر! لكننا نعرف يقيناً أن النبي (صلى الله عليه وسلم) أُعجب بالسيدة مارية، وأنه احتفظ بها لنفسه وأهدى أختها (سرين) لحسان بن ثابت (رضي الله عنه) كراهة للجمع بين الأختين. ولا توجد رواية واحدة لأي جملة قالتها السيدة مارية! فلا نعرف مشاعرها تجاه النبي (صلى الله عليه وسلم) ولا كيف تقبلت الحياة في الصحراء العربية؟ ولا كيف فهمت الإسلام وتقبلته؟ أغلب ما نعرفه عنها من روايات، وهي قليلة جداً كما سبق، يأتينا من السيدة عائشة (رضي الله عنها) التي غارت من السيدة مارية لجمالها ولحب النبي لها، ولولا هذه الغيرة لما عرفنا عن السيدة مارية شيئاً ذا بال، وفي طبقات ابن سعد يوجد حديث جميل ومعبر للسيدة عائشة تعترف فيه بكل ذلك، فلله درها؛ حيث تقول: "ما غرت على امرأة إلاّ دون ما غرت على مارية، وذلك أنّها كانت جميلة جَعْدَةً، وأعجب بها رسول الله، وكان أنزلها أوّل ما قدم بها في بيتٍ لحارثة بن النعمان فكانت جارتنا، فكان رسول الله عامّة الليل والنهار عندها، حتّى فزعنا لها، فجزعت، فحوّلها إلى العالية، فكان يختلف إليها هناك، فكان ذلك أشدّ علينا، ثمّ رزق الله منها الولد وحُرمنا منه". وبسبب وصف السيدة عائشة لها بأنها كانت جميلة جعدة، أي شعرها أكرت، وأنا أتخيلها مثل نساء بورتريهات الفيوم، خاصة أن أمها كما سبق كانت رومية. وعندما أتأمل كلمة "جزعت" أشعر بعطف جارف عليها، والجزع هو شدة الخوف، فلا بد أن خوفها كان مركباً معقداً، ولا بد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) شعر بهذا حتى إنه نقلها إلى منطقة "العالية" وهي مكان مرتفع، ومن هنا اسمها، شرق المدينة باتجاه نجد. وكما ترى في آخر حديث السيدة عائشة أن أشد شيء عليها كان عندما حملت السيدة مارية من النبي (صلى الله عليه وسلم) وأنجبت ابنه الوحيد (إبراهيم). وهنا طبعاً كانت الغيرة النسائية الطبيعية بالمناسبة كأشد ما تكون، وهي غيرة، كما تقول السيدة عائشة، لم تجربها مع امرأة أخرى؛ لأنها لم تعرف السيدة خديجة عليها السلام. وبسبب هذه الغيرة نعرف أيضاً أن السيدة مارية كانت قليلة اللبن فاشترى لها النبي (صلى الله عليه وسلم) شاة لبوناً أي كثيرة اللبن لترضع إبراهيم من لبنها، فلما كبر (إبراهيم) قليلاً جاء به النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى السيدة عائشة، وقال لها كما في طبقات ابن سعد: "انظري إلى شبهه بي". فقلت السيدة عائشة: "ما أرى شبهاً". فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم): "ألا ترين إلى بياضه ولحمه؟". فقالت السيدة عائشة غير آبهة: "من سقي ألبان الضأن ابيضّ وسمن"! وبعد ذلك لا نعرف الكثير عن السيدة مارية (رضي الله عنها)، فلا نعرف كيف تأثرت لوفاة ابنها الذي تحررت بسببه، ولو عاش لتغير وجه التاريخ الإسلامي تماماً، فقط رواية واحدة في طبقات ابن سعد عن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت عن أمه سيرين قالت: "حضرت موت إبراهيم فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كلما صحت أنا وأختي ما ينهانا فلما مات نهانا عن الصياح". وكذلك لا نعرف كيف عاشت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ ولا نعرف كيف كانت صلتها بالسيدة فاطمة (رضي الله عنها) ولا ببقية أمهات المؤمنين؟ مع من كانت تتحدث غير أختها؟ وهل لو فتحت مصر وهي حية كانت عادت لمصر، خاصة أنها أصبحت كما سبق حرة بعد إنجاب إبراهيم؟ أشياء كثيرة لا نعرفها بالفعل! نعرف فقط أنها كانت تأخذ نفقة من بيت المال، وأنها ماتت سنة 16 هـ، أي قبل فتح مصر في عهد عمر بن الخطاب، وأنه صلى عليها وحشد الناس لذلك، ثم دفنها في البقيع، فرضي الله عنها. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :