رهان نظم الحكم * اقترن مفهوم الاعتدال، أو شعاره، بفكرة الوسطية الإسلامية التي أعيد إنتاجها من دون بلورتها وتحديد مضمونها أو حتى معناها في العصر الراهن. * كانت مواجهة إرهاب الحركات الإسلامية التي رفعت لواء «الجهاد» ولجأت إلى العنف سبباً ثانياً للحاجة إلى تيارات إسلامية سياسية معتدلة اعتقاداً في أن وجود أصوات معتدلة يساهم في إضعاف نزعات التطرف التي تنتج عنفاً وإرهاباً. * الافتراض الذي تنطلق منه رؤية الاعتدال والوسطية في الإسلام السياسي هو أن وجودهما كان حاجة موضوعية دفعت إلى التعجل في اعتبارهما موجودين بالفعل استناداً على خطاب سياسي شديد العمومية تبنته التيارات التي اعتبرت معتدلة ووسطية. * تعامل مجلس قيادة الثورة، ومن قبله قيادة تنظيم «الضباط الأحرار»، مع الجماعة باعتبارها أبرز القوى الوطنية التي يمكن الاعتماد عليها، بما ينطوي عليه ذلك من اعتقاد في أنها ليست متطرفة على الأقل إلى الحد الذي يثير القلق. * في ظل الصدام مع «الإخوان»، اتجه عبد الناصر إلى مؤسسة الأزهر لتطويرها من أجل أداء دور أراده لها كمؤسسة إسلامية كبرى تعبر عن الوسطية والاعتدال. غير أن الطريقة التي اتُبعت سعياً إلى هذا الهدف أدت على المدى الأبعد إلى تداعيات سلبية. * في الوقت الذي شهدت فيه العلاقة بين «الإخوان» وقوى المعارضة المصرية مزيجاً من الصراع والتعاون، كان هناك ميل واضح لدى غير قليل من الباحثين المهمومين بقضايا الوطن إلى دمج الإسلام السياسي المعتدل في الحياة السياسية. * إذا كان مفهوم الاعتدال ملتبساً، الأمر الذي يصعب معه تحديد مستوى هذا الاعتدال أو حتى تعريفه بدقة، فالأمر كذلك أيضاً بالنسبة إلى مفهوم الوسطية رغم أنه فد يكون قابلا للتحديد. * كثير من الإسلاميين استخدموا مفهوم الوسطية دون تحديد أو تعريف متفق عليه، واستدرج كثير غيرهم إلى الحديث عنه وكأنه يشير إلى معنى محدد في الوقت الذي ظل مفهوما سائلاً ومراوغاً. * جانب من الرهان على اعتدال جماعة «الإخوان» ارتبط باعتقاد لم يركز على وسطيتها فكرياً وفقهياً بقدر ما اهتم بما بدا أنه جيل وسط في هذه الجماعة يمكن التعويل عليه. * لم يختلف الاتجاه الرئيسي في فكر المثقفين «الوسطيين» عن التوجهات الأساسية لهذه الجماعة وتلك القوى، سواء من جاءوا من خلفية «إخوانية» أو يسارية. * ظل كل من البشري وعمارة يعتبران فكر العلمانيين المصريين وافداً من الغرب وغريباً على الشرق، بل تعدى الأمر الفكر إلى من يؤمنون به حيث اعتبروهم غرباء. * التوجهات الفكرية للمثقفين والكتّاب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون، بل بكونهم النماذج الأبرز للوسطية، ليست الا تعبيراً عن التوجهات السياسية لجماعات الإسلام السياسي بما فيها جماعة «الإخوان». القاهرة: وحيد عبد المجيد كانت الحاجة، وستظل، هي أم الاختراع. فكم من اختراعات ظهرت أو اختُرعت نتيجة وجود حاجة ماسة إليها. وينطبق ذلك على ما هو مفيد، وما هو ضار، في هذه الاختراعات. والمقصود بالاختراع هنا معنى أوسع بكثير من الكشف العلمي أو الابتكار التكنولوجي. فهو يشمل الأفكار بأنواعها كافة ومجالاتها جميعاً. ومن هذه الأفكار فكرة الاعتدال التي ظهرت مع صعود تيارات الإسلام السياسي منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، ومفهوم الوسطية الذي توسع استخدامه في هذا السياق وبات مقترناً بالمثقفين والكتاب الذين يعبرون فكرياً عن التوجه السياسي العام لهذه التيارات. كانت الحاجة إلى هاتين الفكرتين قوية لدى تيارات الإسلام السياسي التي انقضت مصلحتها أن تقدم نفسها في صورة مفادها أنها تجنح إلى العمل السلمي المعتمد على الدعوة والإقناع والمنبت الصلة بالعنف والإكراه وتسعى إلى الحوار والشراكة مع غيرها من التيارات وتنأى بنفسها عن الغلو والمغالاة وتنفر من الجموح والمغالبة. ورغم أن هذه التيارات لم تطرح ما يمكن اعتباره نهجاً واضحا يمثل قطيعة معرفية مع من يرفعون لواء «الجهاد» في مواجهة المسلمين وشركاء الوطن ويلجأون إلى العنف ويمارسون الإرهاب، فقد حرصت على تمييز نفسها عنهم باعتبارها ممثلة للاعتدال في مواجهة تطرف من يحملون السلاح. ولكن مفهوم الاعتدال الذي أصبح مقترناً بتيارات الإسلام السياسي وحركاته، وأهمها جماعة «الإخوان» المنتشرة حول العالم، ظل أقرب إلى شعار عام منه إلى فكرة تقوم على رؤية واضحة لمحدداته وأسسه ومنهجه والخط الذي يفصله معرفياً وفكرياً وسياسياً عن العنف الذي لم يخل تاريخ هذه التيارات وخصوصا جماعة «الإخوان» منه. واقترن مفهوم الاعتدال، أو شعاره، على هذا النحو بفكرة الوسطية الإسلامية التي أعيد إنتاجها من دون بلورتها وتحديد مضمونها أو حتى معناها في العصر الراهن. ولذلك ظلت فكرة الوسطية، مثلها مثل الاعتدال، أقرب إلى شعار عام رغم أنها اقترنت بمجموعة من المثقفين والكتّاب الإسلاميين الذين قدموا أنفسهم حيناً، وقُدموا حيناً آخر، باعتبارهم ممثلين لها مثل الدكتور يوسف القرضاوي، والدكتور محمد سليم العوا، والدكتور محمد عمارة، والمستشار طارق البشري، والأستاذ فهمي هويدي، وغيرهم. غير أن ما ينبغي الانتباه إليه هو أن الحاجة إلى وجود تيارات معتدلة في ساحة الإسلام السياسي وأفكار إسلامية وسطية، لم تكن مقصورة فقط على التيارات التي وُصفت بالاعتدال والمثقفين الذين اعتبروا وسطيين. كانت الحاجة إلى إسلام سياسي معتدل ووسطي قائمة أيضاً لدى قطاع من الباحثين والأكاديميين، وأجنحة في التيارات الأخرى الليبرالية والقومية العربية واليسارية، اعتقاداً في أن وجوده يساعد في إزالة أو على الأقل تخفيف أحد أهم المخاوف التي ظلت تعترض طريق التطور الديمقراطي في عدد من الدول العربية، وهو وصول حركات إسلامية سياسية إلى السلطة عبر هذا الطريق ثم غلقه بضبة ومفتاح. ولذلك كان الجدل حول ما إذا كانت مرجعيات تيارات الإسلام السياسي التي وُصفت بالاعتدال وبنياتها التنظيمية المغلقة تسمح بأن تصبح جزءاً من عملية ديمقراطية مفتوحة يحدث فيها تداولٌ على السلطة عبر الانتخابات، إحدى أهم القضايا التي شغلت الحيز العام في كثير من البلاد العربية منذ أوائل ثمانينات القرن الماضي. وكانت مواجهة إرهاب الحركات الإسلامية التي رفعت لواء «الجهاد» ولجأت إلى العنف سبباً ثانياً للحاجة إلى تيارات إسلامية سياسية معتدلة اعتقاداً في أن وجود أصوات معتدلة في هذا السياق يساهم في إضعاف نزعات التطرف التي تنتج عنفاً وإرهاباً تأسيساً على المنطق البسيط الذي يقضي بأنه إذا زادت مساحة فكرة ما تناقصت بالتالي مساحة نقيضتها. ولما كان الاعتدال والتطرف نقيضين، بدا أن ازدياد حضور أحدهما لا بد أن يكون على حساب الآخر. وكان لدى بعض نظم الحكم العربية مثل هذه الحاجة إلى وجود تيارات إسلامية معتدلة ذات توجهات وسطية، اعتقاداً في أنه يساهم في محاصرة التطرف والحد من العنف والإرهاب. ولذلك فالافتراض الذي تنطلق منه الرؤية التي نقدمها هنا لمسألة الاعتدال والوسطية في الإسلام السياسي هو أن وجودهما كان حاجة موضوعية دفعت إلى التعجل في اعتبارهما موجودين بالفعل استناداً على خطاب سياسي شديد العمومية تبنته التيارات التي اعتبرت معتدلة ووسطية ولم يتضمن ما يتيح التثبت من جديته أو التيقن من الالتزام به. وسنعود في مناقشة هذا الافتراض إلى ما يمكن اعتباره منطق من راهنوا على هذا الخطاب، وخصوصا من الباحثين والأكاديميين الذين بلوروا ما اتجهت قطاعات من التيارات الليبرالية والقومية العربية واليسارية إلى العمل على أساسه في هذا المجال. وننتقل في الشق الثاني من هذه الرؤية إلى مناقشة الغموض الذي انتاب فكرة الوسطية في أطروحات الإسلام السياسي الموصوف بالاعتدال والالتباس الذي أحاط بها، وما زال.أولا: منطق الرهان على إسلام سياسي معتدل ووسطي ينبغي التمييز في بحثنا عن هذا المنطق بين توجهات نظم الحكم العربية التي راهنت على وجود إسلام سياسي معتدل ووسطي، وكان بعضها «رائداً» في هذا المجال، وأفكار باحثين وأكاديميين ميزوا بين الاعتدال والتطرف وبلوروا أفكاراً ساهمت في دعم الاتجاه إلى الرهان على تيارات إسلامية سياسية اعتبرت معتدلة ووسطية.1- رهان نظم الحكم على إسلام سياسي معتدل ووسطي بدأت إرهاصات هذا الرهان في مصر منذ ثورة يوليو (تموز) 1952، عبر تعاون قيادتها مع جماعة «الإخوان» في الإعداد لهذه الثورة ثم في تثبيت أركانها، قبل أن يبدأ الصدام بين الطرفين بعد شهور على قيامها ويبلغ ذروته في أكتوبر (تشرين الأول) 1954. ففي الفترة بين 26 يوليو 1952 حين اجتمعت الهيئة التأسيسية (مجلس الشورى بعد ذلك) لجماعة «الإخوان» وأصدرت بياناً عبر عن فرحتها (لنجاح الحركة المباركة لضباط الجيش)، و26 أكتوبر 1954 عندما أطلق محمود عبد اللطيف عضو الجماعة ثماني رصاصات لم يصب أي منها جمال عبد الناصر خلال إلقائه خطاباً في ميدان المنشية بالإسكندرية، جرت في نهر العلاقة بين سلطة الثورة و«الإخوان» مياه كثيرة. تعامل مجلس قيادة الثورة، ومن قبله قيادة تنظيم «الضباط الأحرار»، مع الجماعة باعتبارها أبرز القوى الوطنية التي يمكن الاعتماد عليها بما ينطوي عليه ذلك من اعتقاد في أنها ليست متطرفة على الأقل إلى الحد الذي يثير القلق. ورغم أن قادة الثورة فوجئوا عقب نجاحها بطلب المرشد العام للجماعة حينئذ حسن الهضيبي عرض القرارات التي يتخذونها على مكتب إرشاد هذه الجماعة للنظر فيها قبل إصدارها، واصلوا التعاون معها رغم رفضهم هذا الطلب. فقد كانوا في حاجة إلى قاعدة يرتكزون عليها إلى أن يثبّت العهد الجديد ركائزه. ولذلك وجهوا إليها رسائل إيجابية بدءاً باستبعاد ضباط البوليس السري الأكثر عداء لها وإعادة التحقيق في قضية مقتل زعيمها حسن البنا واستثنائها من قرار حل الأحزاب والجماعات السياسية الصادر في 16 يناير (كانون الثاني) 1953. ولكن هذا التقارب الذي فرضته الظروف السياسية سرعان ما تراجع وبدأت عناصر التوتر الكامنة بين الطرفين في الظهور تدريجياً إلى أن بدأت العلاقة في التحول منذ فبراير (شباط) 1954 نحو الصدام الذي بلغ ذروته في أكتوبر من العام نفسه. غير أن هذه التجربة المرة لم تكن كافية لإحداث قطيعة مع منهج الرهان على إسلام سياسي معتدل، ولا حتى على جماعة «الإخوان» نفسها حيث استقطب الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عدداً من قادتها الذين فُصلوا منها أو انشقوا عليها خلال فترة الصدام، واستعان بهم في سعيه إلى مواجهة هذه الجماعة بسلاحها وهو استخدام الدين عبر سياسة استهدفت إثبات أن الإسلام الرسمي أو إسلام الدولة هو الصحيح، وأن «الإخوان» منحرفون عن صحيح الإسلام، قبل أن يعود الرئيس الراحل أنور السادات للرهان عليهم مجدداً في مطلع سبعينات القرن الماضي. ويُعد أحمد حسن الباقوري، الذي فصله مكتب إرشاد جماعة «الإخوان»، والدكتور عبد العزيز كامل، والبهي الخولي، هم أبرز قادة هذه الجماعة الذين نقلوا ولاءهم منها إلى عبد الناصر والدولة الوطنية. وكانت بدايات منهج عبد الناصر في مواجهة جماعة «الإخوان» بسلاح الدين الذي تستخدمه، أو محاولته تجريدها من هذا السلاح، قد ظهرت للمرة الأولى عندما بدأت مقدمات الصدام معها في فبراير 1954 حيث اصطحب معه الباقوري في زيارة إلى قبر مؤسسها حسن البنا في ذكرى اغتياله الخامسة، وألقى كلمة أكد فيها إيمانه بمنهج الإسلام في مختلف مناحي الحياة وأثنى فيها على المرشد الأول وأعماله. وفي ظل الصدام مع «الإخوان»، اتجه عبد الناصر إلى مؤسسة الأزهر لتطويرها من أجل أداء دور أراده لها كمؤسسة إسلامية كبرى تعبر عن الوسطية والاعتدال. غير أن الطريقة التي اتُبعت سعياً إلى هذا الهدف أدت على المدى الأبعد إلى تداعيات سلبية فاقت الآثار الإيجابية التي حققها على المدى الأقصر، فقد خلق إلحاق مؤسسة الأزهر بسلطة الدولة وربطها بها عوامل وهن فيها، حيث ضعفت مصداقيتها عندما بدا أنها لسان حال هذه السلطة. كما أدى توسيعها بلا حدود إلى انتشار مئات المعاهد الدينية التي صار صعباً، ثم مستحيلاً، ضبط إيقاعها في الإطار الوسطي الذي أريد لهذه المؤسسة أن تلتزم به. ولذلك وجد التطرف الديني طريقه إلى غير قليل من العاملين بها وليس فقط الدارسين فيها. ورغم أن السادات واصل استخدام مؤسسة الأزهر بالطريقة نفسها، فقد عاد معه الرهان على اعتدال جماعة «الإخوان» ووسطيتها مرة أخرى. فقد بدأ اعتباراً من أواخر 1971 في الإفراج عن المسجونين والمعتقلين من قادتها وأعضائها، والسماح لمن لجأوا إلى الخارج بالعودة، وأتاح لهم حرية حركة تنامت تدريجياً حيث استأنفوا إصدار إحدى مطبوعاتهم (مجلة الدعوة) عام 1976. صحيح أن الهدف الأساسي للسادات كان الاستفادة من دور «الإخوان» في دعم عملية التحول عن السياسات الاشتراكية الناصرية وإيجاد توازن مع القوى اليسارية (الناصرية والماركسية) المؤيدة لهذه السياسات. غير أنه ما كان متصوراً الاعتماد على «الإخوان» في مثل هذا السياق دون اقتناع بأنهم معتدلون ووسطيون. ولولا ذلك، ما لجأ نظام السادات إلى «الإخوان» للمساعدة في مواجهة التطرف الديني حين أخذت ظاهرة العنف تتفاقم في أواخر السبعينات. فقد اعتمد على المرشد العام لـ«الإخوان» في ذلك الوقت عمر التلمساني وبعض قادتهم في محاولة لوقف تنامي جماعات العنف. وقد أكد ذلك النبوي إسماعيل، الذي تولى منصب وزير الداخلية بين عامي 1977 و1982 ضمن روايته لاعتقالات سبتمبر (أيلول) 1981، حيث روى أنه اعترض على اعتقال التلمساني وقال للسادات إنه «رجل معتدل كان يذهب للجامعات ويتحدث لإحباط تحركات نظمتها جماعات دينية متطرفة. وكان يتحدث ويفند آراءهم لدرجة أنه كان يتعرض أحياناً للإهانة منهم. وهذه تصرفات يستحق عليها الشكر وليس الاعتقال»، كما ورد في مذكراته التي نشرتها صحيفة «الحياة» عام 1995. واستمر منهج الرهان على اعتدال «الإخوان» ووسطيتهم في عهد مبارك الذي شهدت بدايته تعاوناً بينهم وبين النظام في الحرب التي ترتبت على الغزو السوفياتي لأفغانستان، حيث أُتيحت لهم حرية حركة واسعة في الدعوة إلى «الجهاد» في هذه الحرب وجمع تبرعات لدعمها. وكان تصاعد موجة العنف، التي كانت قد بدأت في أواخر السبعينات، وتحولها إلى تهديد قوي في أواخر الثمانينات وحتى عام 1997، عاملاً أخر ساهم في استمرار الرهان على اعتدال «الإخوان» مع ازدياد الحذر تجاههم في الوقت نفسه نظراً لنجاحهم في استغلال حرية الحركة التي أُتيحت لهم منذ بداية السبعينات للتغلغل في المجتمع وتوسيع نطاق المنتمين إلى الجماعة. وتواصل التزام الحذر، وما اقترن به من ممارسة ضغوط على جماعة «الإخوان» عبر توجيه ضربات أمنية انتقائية محدودة ضدها من وقت إلى آخر، بالتوازي مع استمرار تصنيفها ضمن قوى الاعتدال في الإسلام السياسي دون التصريح بذلك. ولعل هذا يفسر توجه المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي استهل إدارته لشؤون البلاد، عقب تخلي الرئيس الأسبق حسنى مبارك عن السلطة في 11 فبراير 2011، بإعطاء أولوية للتعاون معهم. وشمل ذلك المثقفين والكتَّاب الذين كانوا يعتبرون وسطيين، حيث اختير المستشار طارق البشري لرئاسة اللجنة التي عهد إليها هذا المجلس بتعديل دستور 1971 قبل أن يقرر إصدار إعلان دستوري. ويدل اختيار القيادي في جماعة «الإخوان» صبحي صالح عضواً في تلك اللجنة التي رأسها البشري على الارتباط الذي كان قائماً في منهج سلطة الدولة في مصر بين هذه الجماعة ومجموعة من المثقفين ظلوا يوصفون بأنهم وسطيون أو معبرون عن الوسطية الإسلامية. وسنعود لاحقاً لمناقشة اتجاهات فكر هؤلاء المثقفين وعلاقتهم مع جماعة «الاخوان».AFP_QG4902- رهان باحثين وسياسيين على إسلام سياسي معتدل ووسطي راهن غير قليل من الباحثين والسياسيين الليبراليين والقوميين والمستقلين سواء في مصر، أو في بلاد عربية أخرى، على وجود إسلام سياسي معتدل ووسطي. وساهموا بذلك في إضفاء الاعتدال والوسطية على جماعة «الإخوان» وجماعات وأحزاب إسلامية سياسة أخرى، وترسيخ النظرة الإيجابية إلى مثقفين وكتّاب يعبرون فكرياً عن التوجهات السياسية العامة لهذه الجماعات والأحزاب باعتبارهم معبرين عن الوسطية الإسلامية. وكان هذا «الاختراع» نتيجة الحاجة الماسة إلى وجود إسلام سياسي يمكن دمجه في بناء ديمقراطي كان هؤلاء الباحثون والسياسيون يبشرون به ويتطلعون إليه. وقد دشنت قيادة حزب الوفد ذي التاريخ الليبرالي العريق هذا الاتجاه الذي سعى إلى إيجاد إسلام سياسي معتدل، عبر اتفاقها مع قيادة جماعة «الإخوان» على التعاون – الذي أطلق عليه التحالف – في انتخابات 1984 البرلمانية في مصر. وقام ذلك التعاون على أن تضم قوائم حزب الوفد الانتخابية عدداً من المرشحين الذين ينتمون إلى جماعة «الإخوان». وكانت هذه هي المرة الأولى التي يشارك فيها «الإخوان» في انتخابات عامة، حيث وجد ثمانية منهم الطريق إلى مجلس الشعب ضمن قوائم حزب الوفد. وفتح ذلك التعاون الانتخابي بين حزب ليبرالي وجماعة «الإخوان» باباً أوسع للرهان على إدماج هذه الجماعة في الحياة السياسية على أساس أن التفاعل الذي سيترتب على هذا الإدماج سيؤدي إلى التزامها تدريجياً بالديمقراطية بما يتيح في النهاية تبديد المخاوف من وصولها إلى السلطة عبر انتخابات تكون هي الأخيرة في غياب ما يضمن إجراء الانتخابات التالية في موعدها في ظل هيمنة هذه الجماعة على السلطة. وفي الوقت الذي شهدت فيه العلاقة بين «الإخوان» وقوى المعارضة المصرية مزيجاً من الصراع والتعاون، كان هناك ميل واضح لدى غير قليل من الباحثين المهمومين بقضايا الوطن إلى دمج الإسلام السياسي المعتدل في الحياة السياسية و«التنظير» لأهمية هذا الدمج وضرورته لإيجاد الأرضية التي لا غنى عنها لتطور ديمقراطي تطلعوا إليه. وكان كاتب السطور أحد هؤلاء الذين راهنوا على تيار إسلامي سياسي معتدل، وظنوا أن جماعة «الإخوان» قابلة للتطور باعتباره سنة الحياة قبل أن يثبت خطأ هذا الرهان بشكل قاطع عقب تولي الرئيس المنتمي إليها محمد مرسي السلطة في منتصف عام 2012. وكان كتابي «الأزمة المصرية – مخاطر الاستقطاب الإسلامي العلماني» الصادر عام 1993 مثالاً لهذا التنظير في قضية دمج الإسلاميين المعتدلين في الحيز السياسي العام وإتاحة الفرصة لهم للتفاعل والاحتكاك بما يؤديان إليه من تطور فكري وتنظيمي في صفوفهم، سعياً إلى محاصرة العنف الديني الذي كان قد تصاعد في مصر في ذلك الوقت. فقد انطلقت الرؤية المتضمنة في هذا الكتاب، كما جاء في مقدمته، من 3 افتراضات. أولها أن «ظاهرة العنف هي جزء من معضلة أوسع ترتبط بمحدودية التطور الديمقراطي وعدم توفر تقاليد الحوار بين المختلفين فكرياً وسياسياً. فعندما تُغلق أو تضيق أبواب العمل السياسي المشروع، ويتبدد الأمل في التغيير السلمي، تنفتح في المقابل أبواب العنف». وكان الافتراض الثاني أن «ازدياد حدة الاستقطاب الإسلامي – العلماني يهدد باختفاء تدريجي للقوى والعناصر المعتدلة أو القريبة من الاعتدال في كل منهما، والتي يتوقف عليها مد الجسور بينهما. ويترتب على ذلك ازدياد صعوبات التطور الديمقراطي الذي يفترض انفتاح مختلف التيارات على بعضها بما يؤدي إليه من اكتسابها فضائل التسامح والحوار والحل الوسط والتفاعل البنّاء». أما الافتراض الثالث فكان متعلقاً بما بدا في ذلك الوقت من «وجود فرصة للتوافق بين القوى المعتدلة في التيارات العلمانية والإسلامية على إطار عام يحدد ما هو مشترك وما هو مختلف عليه». وكان هذا الاتجاه إلى البحث عن إسلام سياسي معتدل قوياً في تلك المرحلة، حيث عبر عنه كثير من الباحثين في الوقت الذي كان جانب من اللقاءات السياسية بين أحزاب وقوى المعارضة الليبرالية واليسارية وجماعة «الإخوان» يهدف إلى إيجاد أرضية مشتركة والعمل المشترك في مواجهة نظام مبارك الذي أغلق المجال السياسي في وجه الجميع، الأمر الذي فرض عليهم البحث عن سبل للتعاون من أجل الإصلاح. وكثيرة كانت الجهود واللقاءات التي استهدفت ما كان متعارفاً عليه تحت عنوان «توافق وطني». وساهمت تلك الجهود في تقوية الاتجاه البحثي والأكاديمي الذي راهن على إسلام سياسي معتدل. ومن أهم الأعمال البحثية التي عبرت عن هذا الاتجاه الكتاب الذي أصدره مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام عام 2004 تحت عنوان «إسلاميون وديمقراطيون: إشكاليات بناء نظام سياسي ديمقراطي» وحرره الدكتور عمرو الشوبكي. فقد انطلق هذا الكتاب من افتراضين أساسيين. أولهما أن «مسألة إيمان الإسلاميين بالديمقراطية واردة لا تمنعها أسباب هيكلية أو (جينية) تعود إلى جوهر الخطاب الإسلامي، ولكنها ترتبط بتحديات من نوع جديد يتعلق معظمها بمدى جدية نظم الحكم العربية في إطلاق مسيرة الإصلاح السياسي والديمقراطي المعطلة والقادرة على فرض احترام قواعد الديمقراطية على مختلف فرقاء الساحة السياسية». أما الافتراض الثاني فهو أن «الإسلاميين أصحاب العقيدة الكلية والشاملة سيصبحون أمام تحدي بناء رؤى سياسية قادرة على التعامل مع القضايا الجزئية ولغة الأرقام ومهارة التفاعل النقدي مع العالم. وقد خاضت بعض فصائل التيار الإسلامي هذا التحدي بنجاح، وقدمت خبرة حزب العدالة والتنمية في تركيا نموذجاً ناجحاً اقتصادياً وسياسياً». وقد اهتم الكتاب المشار إليه هنا بإلقاء ضوء ساطع على تلك الخبرة تحديداً.ثانياً: التباس مفهومي الاعتدال والوسطية إذا كان مفهوم الاعتدال ملتبساً بطابعه لأنه يتعلق بموقع غير محدد على متواصل Continium سياسي أو فكري يختلف من وقت لآخر، الأمر الذي يصعب معه تحديد مستوى هذا الاعتدال أو حتى تعريفه بدقة، فالأمر كذلك أيضاً بالنسبة إلى مفهوم الوسطية رغم أنه فد يكون قابلا للتحديد. ولكن الكثير من الإسلاميين استخدموا مفهوم الوسطية دون تحديد أو تعريف متفق عليه، واستدرج كثير غيرهم إلى الحديث عنه وكأنه يشير إلى معنى محدد في الوقت الذي ظل مفهوما سائلاً ومراوغاً. وحتى الحزب الذي انشقت قيادته عن جماعة «الإخوان» عام 1995 وحمل اسماً مستمداً من الوسطية (حزب الوسط) لم يقدم تعريفاً محدداً لهذا المفهوم يساعد في تدقيقه. فقد تضمن برنامجه فقرة واحدة عن الوسطية جاء فيها كلام إنشائي شديد العمومية يفتقد التحديد والوضوح: «الوسطية من منظور وطني حضاري تعني عند المؤسسين أن مصر لن تنهض إلا بالعدل والحرية معاً، وليس بأحدهما دون الأخرى. والوسطية تعني أيضاً أن طريق البناء الذاتي يؤسس على الثقة في الذات الوطنية والحضارية التعددية وينبع من قيم الحضارة العربية الإسلامية ذات الطابع المصري المميز بخصوصيتها الثقافية المستمدة من المرجعيات التي ارتضاها المجتمع ونص عليها الدستور». كما ربط هذا البرنامج ضمنياً بين الوسطية الإسلامية والإسلام الحضاري الذي لا يقل التباساً ومراوغة. والملاحظ أن عالم الاجتماع المسيحي الإنجيلي الدكتور رفيق حبيب الذي شارك في تأسيس حزب الوسط كتب عن هذه الوسطية من منظور مختلف تماماً عما ورد في برنامج الحزب الذي ساهم في كتابته. فقد ربط – في كتابة «حضارة الوسط – نحو أصولية جديدة» الصادر عام 2011 – الوسطية بالموقع الجغرافي حيث قسّم الحضارات الكبرى في التاريخ إلى ثلاث: شرقية (آسيا)، ووسطية (العالمان العربي والإسلامي)، وغربية. ورأى أن الحضارة العربية – الإسلامية تمثل ما سماه الوسط الحضاري في التاريخ البشري. وكما هو الحال في برنامج حزب الوسط الذي افتقد مفهوم الوسطية فيه إلى التحديد والوضوح، جاء طرح حبيب أحد قادة هذا الحزب للمفهوم نفسه ما بين عام مبالغ في العمومية وغائم يفتقد الوضوح. فالحضارة العربية – الإسلامية عنده تمثل وسطاً نوعياً بين الحضارات الآسيوية والغربية. ويحاول تفسير ذلك بالعودة إلى ثنائية المادة والمعنى التي تجاوزها الفكر الإنساني منذ فترة طويلة: «أصبح الوسط الحضاري ممثلاً لموضع وسط في التفاعل بين المادة والمعنى، وبهذا يكون تكوينه مركباً من القيمة الثنائية والتي يظهر كل قطب منها في حضارات مختلفة»! ومما يثير الانتباه الآن، ولم يكن منتبهاً إليه قبل أن تنكشف قوى الإسلام السياسي بعد فشلها في الاختبار المصري، أن جانباً من الرهان على اعتدال جماعة «الإخوان» ارتبط باعتقاد لم يركز على وسطيتها فكرياً وفقهياً بقدر ما اهتم بما بدا أنه جيل وسط في هذه الجماعة يمكن التعويل عليه. وقد استمر الرهان على هذا الجيل حتى بعد أن عزفت أغلبيته الساحقة عن الاستجابة لدعوة من انشقوا على الجماعة وسعوا إلى تأسيس حزب الوسط. ففي دراسة الدكتور عمرو الشوبكي «تحديات بناء تيار إسلامي ديمقراطي» المنشورة عام 2004، رأى أن «جيل الوسط في جماعة (الإخوان) أكثر ليبرالية إجمالا من الجيل القديم». وفسر عدم انشقاق هذا الجيل، بخلاف ما فعله أقرانه في تركيا مثلاً عند تأسيس حزب العدالة والتنمية، بأن «الحالة السياسية المصرية لا تسمح حالياً بأي فرصة لقبول حزب سياسي إسلامي ديمقراطي» بخلاف حالة تركيا التي سمحت لرجب طيب إردوغان و«إخوانه» بتأسيس حزب العدالة والتنمية. والحال أن المرء لا يجد معنى واضحاً محدداً للوسطية، مثلها مثل الاعتدال، لدى تيارات الإسلام السياسي والمثقفين الذين ارتبطوا بها في العقود الثلاثة الأخيرة مهما بذل من جهد. وقد يرهقك البحث عن هذا المعنى، فلا تجد إلا إعادة إنتاج لفكرة الأمة الوسطية التي تفتقد بدورها المضمون وتحتاج إلى تحديد واضح للمقصود بها. وحتى المثقفون والكتّاب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون لا تجد لديهم ما تبحث عنه. فكان الدكتور محمد عمارة هو أكثرهم استخداماً لمفهوم الوسطية في كتاباته وأحاديثه، ولكن في الإطار العام غير المحدد أيضاً. فقد تحدث كثيراً عما سماه وسطية جامعة دون أن يوضح ما الذي تجمعه على وجه التحديد. فقد ربط هذه الوسطية الجامعة بإحدى أهم خصائص الأمة الإسلامية وفقاً للقرآن الكريم الذي اعتبرها أمة وسطاً: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً). ولا يختلف هذا الكلام الشديد العمومية عما يمكن أن تسمعه على منابر بعض المساجد في خطب وعظية، أو في أحاديث بعض قادة «الإخوان» وغيرهم من أطياف الإسلام السياسي. فلم يقدم المثقفون والكتّاب الذين استمدوا «شرعيتهم» من اعتبارهم وسطيين جديداً في تحديد معنى الوسطية وبلورة مفهومها وتحريره من السيولة التي يتسم بها. ومع ذلك فقد نجح هؤلاء المثقفون، الذين قدموا إسهامات فكرية مقدّرة في بعض القضايا الأخرى بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق معها، في تدعيم الرهان على الوسطية الإسلامية وربطها بقوى الإسلام السياسي التي لم تمارس العنف وفي مقدمتها جماعة «الإخوان». فلم يختلف الاتجاه الرئيسي في فكر المثقفين «الوسطيين» عن التوجهات الأساسية لهذه الجماعة وتلك القوى، سواء من جاءوا من خلفية «إخوانية» أو يسارية. فقد انتمى بعضهم إلى تنظيم «الإخوان» في مرحلة مبكرة من حياته مثل الدكتور يوسف القرضاوي والدكتور محمد سليم العوا قبل أن يستقيلا منها لأسباب سياسية وتنظيمية وليس لدوافع فكرية وفقهية. وهذا الفرق في سبب الاستقالة بالغ الأهمية، لأن الخلاف السياسي والتنظيمي يتعلق عادة بأمور عارضة، في حين أن الخلاف الفكري والفقهي يرتبط بقضايا أساسية وجوهرية. ورغم أن الدكتور محمد عمارة والمستشار طارق البشري كانا يساريين، قبل أن يتحولا إلى الفكر الإسلامي، فقد جمعهما والقرضاوي والعوا وهويدي وغيرهم قواسم مشتركة اعتبرها كثيرون تعبيراً عن الوسطية الإسلامية رغم أنها تمثل الوجه الفكري لتوجهات الإسلام السياسي. وثمة ملاحظة بالغة الدلالة في هذا السياق، وهي أن تحول البشري من الفكر اليساري إلى الفكر الإسلامي اقترن بتغيير نظرته إلى تاريخ جماعة «الإخوان» ومراجعة ما كتبه عن هذا التاريخ باعتباره مؤرخاً. فقد تضمن أحد كتبه التأريخية «الحركة السياسية في مصر 1945 – 1952» في طبعته الأولى الصادرة عام 1972 رؤية نقدية صارمة لتوجهات جماعة «الإخوان» وممارساتها في تلك الفترة. فقد انتقد مصادرتها الدين لمصلحتها وسعيها للسيطرة على الإسلام وعدم احترام أعضائها إلا أهداف جماعتهم كتنظيم، والغموض الذي اكتنف نظرتها لطبيعة الدعوة، وهل هي سياسية أم دينية. واعتبر البشري هذا الغموض مقصوداً لتسهيل النمو تحت ستار الدعوة الدينية وجذب كثير من الناس بعيداً عن صراعات السياسة المباشرة ومراوغة الحكومة والأحزاب والرأي العام رغم أنها كانت – في نظره حينئذ – ليست إلا تنظيماً سياسياً يسعى للسلطة. كما انتقد عمد اهتمامها بالمسألة الوطنية، معتبراً أنها رغم ما كان يصدر عن قادتها من تعريض بالاستعمار أحيانا أو هجوم عليه كانت أقل التنظيمات تعرضاً للمسألة الوطنية وتحديداً للموقف إزاءها في وقت كانت هذه المسألة هي بؤرة الاهتمام العام. وليس هذا إلا غيضاً من فيض الانتقادات التي وجهها البشري إلى «الإخوان» في الطبعة الأولى من الكتاب. غير أنه لم يلبث أن راجع نظرته هذه إلى «الإخوان» مراجعة جذرية تقريباً. ولذلك صدّر الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عام 1983 بمقدمة طويلة في 68 صفحة أفصح فيها عن تغيير نظرته إلى جماعة «الإخوان». وأوضح في هذه المقدمة، التي لم تكن من حيث حجمها ووظيفتها مجرد مقدمة بل فصلاً جديداً، أن فكره تغير. وقال: «دار فكري دورة كبيرة» في ما يتعلق بفهم طبيعة جماعة «الإخوان» ودورها، موضحاً أنه أدرك أن من ينظر إليها من خارج إطارها الفكري والعقيدي والحضاري «لا يستطيع أن يستصحب منطقها»، ولا يعي الفرق «بين المنهج الإسلامي كما يراه الإخوان والمنهج العلماني الذي انطبع به فكر الكثيرين من أبناء المؤسسات الحديثة في بلدنا». ومضى بعد ذلك «يصحح» ما أخطأ فيه عندما لم يستصحب منطق «الإخوان»، ويراجع ما ورد عنهم في الطبعة الأولى «بهذا النظر» الجديد، ويوضح أنه صار يفهم ما غفل عنه من قبل. ويعني ذلك أن المثقفين «الوسطيين» الذين انشقوا على جماعة «الإخوان» لم يحدثوا قطيعة معرفية معها، وأن من جاءوا من خلفيات أخرى منهم لم يحافظوا على القطيعة المعرفية التي كانت تفصلهم عنها قبل تحولهم إلى الفكر الإسلامي. فلم يختلف فكرهم عن توجهات جماعة «الإخوان» والإسلام السياسي عموماً في جوهرها، بل قدم بعضهم رؤى بدت أكثر تشدداً في صيغتها الفكرية التي طُرحت بها مقارنة بالتوجهات السياسية المعادلة لها في خطاب «الإخوان» وغيرهم من قوى الإسلام السياسي. خذ مثلاً الموقف من الآخر. فقد ظل كل من البشري وعمارة يعتبران فكر العلمانيين المصريين وافداً من الغرب وغريباً على الشرق، بل تعدى الأمر الفكر إلى من يؤمنون به حيث اعتبروهم غرباء. وأذكر أننا كنا في ندوة نظمتها صحيفة «الحياة» في مكتبها بالقاهرة عام 1994 حين فاجأنا الدكتور محمد عمارة بترديد القول المأثور شعبياً «البيت بيت أبونا… والغرب بيطردونا»، قاصداً أن «العلمانيين» الغرباء يسعون إلى إقصاء الإسلاميين الأصلاء. وقد شرحت له يومها أن الدار (الوطن) للجميع وليست لأحد، ولم يرثها أي طرف عن أبيه وليس فيها غرباء لأن من يعيشون فيها كلهم شعب واحد. ويكشف كتاب الدكتور عمارة «معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام» الصادر عام 1996 رفضاً دفيناً لكل ما تعبر عنه مفاهيم التنوير والديمقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية والإبداع، وليس فقط مفهوم العلمانية، ونفوراً شديداً من المضمون التحرري لهذه المفاهيم. فالتنوير مثلاً هو محض اتجاه مادي لا ديني. وقل مثل ذلك عن بعض أفكار المستشار طارق البشري الذي ينظر إلى العلمانية باعتبارها «وافداً غريباً اقتحم حياة مصر وشعبها في القرن التاسع عشر». ويعتبر كتابه «الحوار الإسلامي العلماني» الصادر عام 1996 مثالاً للغلو في هذا المجال. فقد ربط بين ما سماه وفود الفكر العلماني وحضور الاستعمار، ورأى أن البحث عن أمر الفكر الوافد في مجمله «أي كل الأفكار الإنسانية المدنية» لا يتيسر إلا باستحضار قصة المواجهة السياسية والعسكرية المستمرة مع الغرب على مدى القرنين الأخيرين، في إطار ما يسميه «عصر مقاومة الاستعمار». ويعني ذلك أن الكثير من المفاهيم الأساسية التي تقوم عليها الدولة الوطنية في هذا العصر ليست إلا فكراً وافداً ارتبط بالغزوة الاستعمارية، وأن مقاومة هذه الغزوة يرتبط بالتالي (وهذا استنتاجنا وليس قوله الصريح) بمواجهة تلك المفاهيم التي لا يستقيم بناء الدول والمجتمعات في العصر الراهن في غيابها. ولعله ينسى أن من بين هذه المفاهيم ما كان سلاحاً في مواجهة الاستعمار مثل السيادة الوطنية وتقرير المصير فضلاً عن مفهوم الديمقراطية الذي يرتبط بالضرورة باستقلال الوطن لأنه يقوم على مبدأ السيادة للشعب الذي ينفر منه بعض قوى الإسلام السياسي صراحة وبعضها الآخر ضمناً أو ثورية. وكثيرة هي في الواقع الأمثلة الدالة على أن التوجهات الفكرية للمثقفين والكتّاب الذين اشتهروا بأنهم وسطيون، بل بكونهم النماذج الأبرز للوسطية، ليست الا تعبيراً عن التوجهات السياسية لجماعات الإسلام السياسي بما فيها جماعة «الإخوان». فالوسطية الإسلامية، التي تقوم على فكرة عامة بسيطة مؤداها أنه لا إفراط ولا تفريط، هي نمط حياة يعيشه مئات الملايين من المسلمين بشكل طبيعي وليست توجهاً فكرياً أو سياسياً. فالإنسان المسلم وسطي بفطرته إلا إذا تعرض لما يفسد هذه الفطرة التي فطره الله عليها. * نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
مشاركة :