القاهرة: «الخليج» حياة «موليير» لا تزال موضوعاً لكثير من الآراء المتناقضة وربما كان من العوامل التي لا تعين على معرفة الكثير عنها بالدقة، خلو إنتاجه من التفاصيل، التي تتعلق بها، فكل ما نعرفه عن طفولته وصباه هو أنه ولد في باريس، وأن أباه كان يجمع بين الاتجار في السجاد ووظيفة خادم الملك، ودرس على يد اليسوعيين ثم درس الحقوق، واشتغل بالمحاماة فترة قصيرة، لم يترافع خلالها سوى مرة واحدة، ثم اندفع نحو المسرح بميل طبيعي لم يستطع مقاومته، ويقال إنه فقد أمه وهو في الحادية عشرة من عمره وأن أباه كان بخيلاً، وجده لأمه هو الذي غرس فيه حب المسرح.يقال إنه حين قرر التفرغ للمسرح لقي معارضة شديدة من والده، لكن في يونيو/ حزيران 1643 اتفق مع ثلاثة أفراد من أصدقائه على إنشاء فرقة مسرحية أطلقوا عليها اسم «المسرح الفخم» وكان موليير مديرها الفعلي بالرغم من حداثة سنه، وأصيبت التجربة بالإخفاق، وتراكمت الديون على أفرادها، ويقال إنه سجن مرتين بسبب تلك الديون، وكانت هناك رعاية غامضة تؤدي إلى سرعة الإفراج عنه، وجمعت الفرقة أمتعتها ولاذت بالريف في أواخر عام 1645 ولم تعد إلى باريس إلا بعد 13 عاما، وفي إحدى جولات الفرقة حصل موليير على إذن من دوق أورليان، شقيق الملك، بأن يمثل في باريس أمام الملك، وفي 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1658 قدمت الفرقة في قصر اللوفر مأساة لكوزي، وملهاة هزلية من تأليف موليير، وأعجب لويس الرابع عشر بالفرقة فسمح لها بأن تستقر في باريس، وبأن تسمي نفسها «فرقة شقيق الملك» وأن تقدم حفلاتها في مسرح البوربون الصغير، وظل موليير يمثل فيه إلى أن مات.كان موليير يتصف بأنه ليس بالضخم ولا بالنحيف، أقرب إلى الطول منه إلى القصر، يمشي بخطى ثابتة، أنفه وفمه كبيران، شفتاه غليظتان، لونه خمري حاجباه كثيفان، دمث، مجامل كريم، وقد أكدت هذه الصفات شهادات المعاصرين له، ومنها أيضا أنه كان معتل الصحة، تعساً في حياته الزوجية، وكان كريماً حد السخاء (يحكى أنه صادف في طريقه رجلاً معوزا، فدس في يده قطعة نقود ولم يكد يدير ظهره حتى نظر الرجل إليها فوجدها من الذهب، فأسرع إلى موليير وقال له: «لعلك لم تتعمد إعطائي هذه القطعة الذهبية، ولذا فإنني أردها إليك» لكن موليير رد عليه قائلا: «خذ يا صديقي هناك قطعة أخرى»، وصاح قائلا: «أين ستعشش الفضيلة؟»).لقد وهب موليير موهبة دقة الملاحظة منذ صباه، ومن هنا جاءت شخصيات مسرحياته مليئة بالحيوية ومثيرة للمتعة، فقد كان يدير أكبر فرقة مسرحية في باريس، ويؤلف في المسرحية تلو الأخرى (ثلاث مسرحيات في النصف الأول من عام 1668)، ويقوم بتمثيل الدور الأول فيها وكل ذلك في جو خانق، يضاعف تسممه التهاب رئوي وسعال حاد، وقبل وفاته بشهرين أشفق عليه أحد أصدقائه، وحاول إقناعه بالكف عن التمثيل والاكتفاء بالتأليف، لكن موليير رفض أن يتخلى عن فرقته إلى أن مات في 17 فبراير/ شباط 1673.اشتدت العلة على موليير وهو يقوم بدوره بشكل لحظه الجمهور، لكنه بذل مجهوداً مكنه من مواصلة دوره حتى نهايته، وهنا نقل إلى بيته، ولم يكد يأوي إلى مضجعه حتى أخذ سعاله يتضاعف في عنف أدى إلى انفجار أحد شرايين رئتيه، ففقد النطق، وتدفق الدم من فمه، ثم قضى نحبه، وظل رجال الدين حانقين عليه حتى بعد وفاته، إذ ظلت مسرحيته «طرطوف» ماثلة في أذهانهم. وقد تباطأ القس الذي استدعي في المجيء، ولم يصل إلا بعد إلحاح طويل، بعد أن فارق موليير الحياة، ورفضت الكنيسة أن يدفن فيها، فاضطرت زوجته إلى الالتجاء للملك ملتمسة منه التدخل لدى كبير أساقفة باريس، وأذنت الكنيسة بالدفن على أن يتم ليلاً دون صلاة على الجثمان ولا احتفال ديني، وكانت حياته قد اكتملت وهو في عمر الواحد والخمسين.موليير صانع الفن الكوميدي الحقيقي في فرنسا، ومع ذلك كان يميل إلى التراجيديا، ربما يعود ذلك إلى تعاسته في الحياة، وكان يختلف عن كل من سبقه من كتاب المسرح، وقد تصدى للعيوب التي تصيب البشرية في جميع البلاد والأزمات، حيث كتب قرابة ثلاثين مسرحية، منها البخيل، المتحذلقات الضاحكات، طرطوف، المتزمت، البرجوازي الشريف، النساء العالمات، مريض الوهم، وقد قال أحد النقاد: «إن وجه موليير وإنتاجه يظهران في القرن السابع عشر، ثم يخرجان منه، إن فكره يتخطى هذه الحدود لأنه عالمي»، بل إن هناك من قال: «إن موليير لا يتبع أي شعب من الشعوب إنه عبقرية الكوميديا على الإطلاق، وقد قدر لها أن تظهر في فرنسا».وكان جوته يعيد قراءة إنتاج موليير كل عام ويقول: «إنه من العظمة بحيث يشعر الإنسان كلما أعاد قراءته بدهشة جديدة، إنه رجل كامل وفريد» وإذا كانت الأكاديمية الفرنسية قد بخسته حقه في حياته، إذ أغفلت ضمه إلى زمرة أعضائها، فقد أحست بعد مماته بالخسارة الفادحة التي لحقت بالأدب والمسرح والفن الإنساني، وقد أجبرها على الاعتراف به فأقامت له تمثالاً نصفيا كتب عليه: «لا شيء ينقص مجده، لقد كان هو ينقص مجدنا».
مشاركة :