وأخيراً، وبأثمان باهظة على كل المستويات، أعلن تحرير مدينة الموصل، بعد 37 شهراً من سيطرة تنظيم «داعش» الإرهابي عليها في 9 حزيران (يونيو) 2014. هكذا وبعد 9 أشهر من المعارك التي خاضتها القوات العراقية بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، تنفض المدينة التي باتت منكوبة بكل المعايير عن كاهلها «لوثة» التنظيم الإرهابي بعد 3 سنوات من نكبةٍ تسببت بآثار وتداعيات لن تمحى قبل سنين عديدة. ومع هذا الإعلان الذي يعدّ في الميزان العسكري مهماً، إلا أنه ليس نهاية المطاف لاستمرار وجود التنظيم في مناطق شاسعة أخرى، وفي الطريق إلى استكمال اجتثاث دولة البغدادي المزعومة بإنهاء سيطرة التنظيم الإرهابي على الرقة في الشمال السوري، فإن مؤشرات عدة تجعل من نهاية «داعش» قريبة، وهنا تبدأ مرحلة قد تكون أصعب لمنع ظهور «داعش – 2»، في ظل أسئلة كبيرة وتحديات صعبة على أكثر من مستوى، ومن أبرزها: على المستوى العراقي، من سيتولى إدارة كبرى مدن العراق ومحيطها لمعالجة نكبتها، في ظل الصراعات الإقليمية وهشاشة الوضع السياسي العراقي الداخلي وتحديات أمنية واقتصادية وعمرانية ضخمة مع وجود أكثر من 900 ألف نازح وعشرات آلاف الضحايا من المدنيين؟ هل تتحرك الأمم المتحدة لحماية ما تبقى من مدنيين لحمايتهم من انتقام التنظيم أو ممارسات الميليشيات الطائفية، وتأمين ظروف عودة النازحين وإعادة البنى التحتية والمرافق الصحية سريعاً؟ وهل ستتم معالجة الأسباب التي أدت إلى المساهمة في نشوء «داعش» ومن قبله جماعة الزرقاوي، أي التهميش السياسي للسنّة، وهي الثغرة الرئيسية التي تتسلل منها جماعات العنف لتضليل الرأي العام، وذلك من خلال تفعيل العملية السياسية في شكل عادل ومتوازن، أم ستستمر سياسات الإقصاء والتنكيل والاستبعاد فتكون ذريعة لظهور نسخ متطرفة أخرى قد تكون أكثر تشدداً؟ وهل سيتنبه العالم العربي لسلبيات ابتعاده عن العراق، فيعيد حساباته ويفعّل حضوره – على غرار ما فعلت وتفعل السعودية حالياً – في المشهد العراقي، ديبلوماسياً واقتصادياً وتجارياً وثقافياً فيقطع طريق الابتلاع التدريجي لهذا البلد العربي العريق؟ على المستوى السوري، تذهب بعض التقديرات إلى أن معركة الرقة ستكون أسهل من معركة الموصل لاعتبارات عدة، ليس أقلها أن التنظيم فقد كثيراً من مجاله الحيوي الداعم، وإمكاناته اللوجستية والعسكرية، وفرار أو تصفية كثير من مقاتليه، ويتردد أن اتفاقاً عقد بين «داعش» و «قوات سورية الديمقراطية» يقضي بتسليم المدينة مقابل ضمان سحب مقاتليه وعدم استهدافهم من الطيران الروسي او السوري. لكن على المستوى السياسي، تبدو الصورة أكثر تعقيداً لارتباطها بمسار الأزمة السورية واحتمالاتها، وحسابات الأطراف الخارجية منها وفيها، وهو ما يجعل الحديث عن «وظيفة» داعش في المشهد السوري يوازي الحديث عن دور أي طرف من التنظيمات المتطرفة المكلفة بلعب دور محدد في لهيب المنطقة. على المستوى الأمني، إن استعادة الموصل لا تعني انتهاء وجود التنظيم الذي لا يزال يملك حضوراً في مناطق مهمة في العراق وسورية، وحضوراً خطيراً في جنوب اليمن وسيناء وليبيا، وحضوراً أخطر في بلدان أوروبية وتركيا وأستراليا من خلال خلايا نائمة أو ما يعرف بـ «الذئاب المنفردة» والتي تملك القدرة على إيصال الرسائل الدموية وضرب الاستقرار في أي وقت. فمن المعلوم أن «داعش» وملحقاته، طوّر أساليبه الأمنية ووسع أهدافه، تقنياً وتخطيطاً وتوقعات أو التفافاً على التوقعات، لأنه يعتبر نفسه في سباق مع أجهزة الأمن والاستخبارات العالمية، وهو استطاع الضرب والتفجير خارج رقعته الجغرافية في دول استقرارها أصلاً مهزوز، وفي دول مستقرة أو من الأعلى استقراراً حول العالم من دون أن تفلح معه السياسات والإجراءات الاستباقية أو الوقائية، وكل ذلك يفرض مقاربة أمنية واعية لمتابعة مرحلة ما بعد إنهاء التنظيم من خلال استراتيجية متكاملة للرصد والتتبع والتعامل مع الأخطار الكامنة. وكما طرح السؤال - الإشكالية قبل أربع سنوات عن طريقة دخولهم عشرات آلاف المقاتلين وعائلاتهم بيسر وسهولة إلى مناطق سيطرة «داعش»، فإنه وبعد انهيار بنيته العسكرية، فإنه سيطرح وبقوة حول مصير من تبقى منهم وهم بالآلاف، أكثر من نصفهم أجانب من غير العراقيين أو السوريين، وهؤلاء يشكلون تهديداً حقيقياً في حال «تبخرهم» من جغرافيا التنظيم، سواء عادوا إلى بلدانهم أو انتقلوا إلى ساحات أخرى. وإلى المعالجة الأمنية، لا مناص من معالجات مجتمعية وفكرية في هذه الحرب التي تستعصي على الفهم والتصور، من جماعات تدّعي الانتماء للإسلام وتسببت بأبشع الكوارث والمصائب للمسلمين، قتلاً وتفجيراً وتهجيراً وترويعاً، واعتداء على الأنفس والمصالح وعلى الدين نفسه، هي مفارقة ليست تفصيلاً، خصوصاً أن الإرهاب باسم الدين فتحَ أبواباً واسعة لاختراق المجتمعات العربية وشرّعها أمام كل جهّة تحت ذريعة مكافحة هذه الآفة، وأوقع الجاليات العربية والإسلامية تحت نار الكراهية والاسلاموفوبيا. إن السؤال الأكثر إلحاحاً هو هل ستتكشف، يوماً ما، حقيقة تنظيم «داعش» كاملة، من أنشأه، ولأي غاية، ومن موّله وأشرف على تسليحه، من هندسَ منظومته الإعلامية والأمنية والمالية، ومن سهّل وصول آلاف المرتزقة إلى رقعته الجغرافية؟ ومجدداً ليس الوقت للتخمين والحسابات الخاطئة، فالزمن زمن حرب على إرهاب لا دين له، واستئصاله من الدين والمجتمع بات أولوية الأولويات.
مشاركة :