سيل من التحليلات والأخبار المتداولة عبر الشبكة العنكبوتية، يتحدث عن تحذيرات وتكهنات حول فصل غزة وتوطين الفلسطينيين في سيناء. واللافت في هذه التسريبات أن معظمها منسوب إلى مصادر عبرية بغية تضليل القارئ واستغلال عدم متابعة بعضهم ما يصدر عن إعلام الاحتلال. والمتابع الجيد لهذا النوع من الإعلام يعلم أن أكثر من 90 في المئة من هذه التسريبات لا صلة لها بإعلام الاحتلال ولم تخرج عنه، وهو أسلوب منتهج أخيراً من جانب أي طرف يود تضليل الرأي العام فيلجأ الى حيلة الترجمات والنقل عن الإعلام العبري. وهنا لا أبرئ إعلام العدو أبداً من لعبة التضليل وخلط الأوراق التي يحترفها، لكن كيف لنا أن نقرأ المشهد من خلال هذا السيل من التسريبات وربطه بالواقع المعيش في قطاع غزة خصوصاً والوطن عموماً، مع ما يجرى في المحيط ومحاولة خلق فزاعة جديدة وربطها بمحمد دحلان. بداية، إن أي تسريب إعلامي له غرض، وقد يكون أحد هذه الأهداف هو قياس رد فعل الشارع أو تهيئته لمرحلة ما، وهذا شيء لا ننكره، بل على العكس يجب أن يعطى أهمية أثناء متابعة المتغيرات والبدائل على سائر الخيارات الأخرى، لا سيما أن ما يجرى في سيناء من عملية إفراغ مبرمجة من خلال تنظيمات مسلحة مشبوهة النسب وعبث دول في هذه البقعة من الأرض التي تجتمع فيها أجهزة استخبارات دولية، لكل منها أجندتها الخاصة، يدفع الى التنبه لحساب النتائج التي قد تترتب عما يجرى والى التأمل بشكل معمق بماذا يجب العمل. وليست أيضاً زيارة ترامب المنطقة بعيدة أو منفصلة عن هذه التسريبات، وما تبع الزيارة من متغيرات إقليمية، وما سبقها من وعود عريضة بإيجاد حل تاريخي للصراع العربي - الإسرائيلي الذي تقزم في الوعي الجمعي العربي والخطاب الرسمي والإعلامي ليصبح الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وما تبعها من تراجع واضح عن هذه الوعود بعد زيارة بيت لحم واسرائيل والتحول في لغة الخطاب مع الرئيس محمود عباس والسلطة الفلسطينية والضغط عليهما باتجاه أخذ إجراءات اكثر تطرفاً في ملفات وطنية، منها الأسرى والشهداء، من دون إعطاء أي إشارة إيجابية الى نية إدارة ترامب ممارسة أي ضغط على إسرائيل التي باشرت استكمال مشروعها الاستيطاني. وفي إطار هذه العاصفة من التسريبات والإرباك الإعلامي والسياسي وفي ظل حالة العجز العربي والانشغال الذاتي بعد حالة الفوضى التي ضربت البلدان العربية في ما أطلق عليه الربيع العربي، هل ما زال خيار الحرب على غزة قائماً وبهذه الوحشية التي يتم التسويق لها؟ وهل هذا الخيار هو تهديد لنا وحدنا أم أنه تهديد أيضاً للطرف الآخر؟ نعم إن خيار الحرب لم يكن يوماً بعيداً، ودولة الاحتلال تستعد له في كل لحظة، فهي مع رضاها الكامل عن الواقع الحالي للشعب الفلسطيني، من حالة انقسام سياسي ووطني واجتماعي، لا تأمن جانب الفصائل الفلسطينية الرابضة خلف حدودها، لذلك تسعى لتحييدها، إما بالحرب وإما باتفاق سياسي، مع إدراكها أن لا قيمة لأي اتفاق سياسي في الضفة الغربية ما لم يشمل غزة، وهي ليست لديها الرغبة في نقل حالة غزة الى الضفة الغربية بخطأ في الحسابات، كما حدث في غزة، بسماحها لحركة «حماس» والفصائل ذات الأيديولوجية الدينية بالتمدد على حساب التيار الوطني لضرب هذا التيار والانتقال الى المرحلة الثانية من الخطة، كما كان مأمولاً دخول الحالة الفلسطينية في صراع ذاتي طويل الأمد، وهو ما حدث بالمناسبة، لكن ليس بالكيفية نفسها التي أرادها الاحتلال، لذلك فإن مصلحتها الحفاظ على الواقع الحالي ما أمكن. عندما يكون الخطر أكبر من الاختلاف يجب إعلاء المصلحة العامة على الأنا، وهذا ما حدث في لقاء السنوار- دحلان، فكل طرف كانت له رؤيته وحساباته للواقع، علاوة عن المكاشفة والقراءة الدقيقة للمرحلة والأخطار التي باتت تدق باب غزة وتتجاوز الوضع الإنساني، وإن كان هو الشق المعلن وواحداً من الأسباب الدافعة لتعجيل التلاقي على رغم الاختلاف في منهج وأيديولوجيا الطرفين. قد تكون التغيرات التي حدثت في الإقليم، إضافة الى تغير قيادة «حماس» الحالية، عوامل ساهمت في إخراج هذه التفاهمات الى النور، لكن ما لا يود إدراكه بعضهم أو يتعمد تجاهله، أن هذه التفاهمات ما هي إلا نتيجة تراكمات سابقة خلقها واقع غزة وإجراءات السلطة الفلسطينية تجاه سكان غزة بممارسة ظلم متواتر من دون إيجاد رغبة حقيقية لتغيير هذا الواقع، والأهم من ذلك هو الدور المصري الذي بات مقتنعاً اكثر من أي وقت مضى بأن مشكلات غزة لن يحلها غير أبنائها، وأن المصلحة العليا المصرية تكمن في غزة وليس خارجها، وجميعنا يدرك أن السياسة تدار بلغة المصالح وليس العواطف. لماذا لا يكون العكس أن هذه التفاهمات هي لقطع الطريق على هذا النوع من المخططات المشبوهة وإعادة الزخم للقضية الوطنية، من خلال حالة من التكامل بين الكل الفلسطيني، عوضاً عن التنازع الذي كان ولا يزال يستنفد معظم مقدرات شعبنا الوطنية، من خلال الاشتغال بالذات على حساب قضايانا الوطنية، حتى ولو من باب المناكفة أحياناً، وما هو الأسوأ الذي قد يجنيه الفلسطينيون من خلال هذه التفاهمات بعد أن وصلوا إلى قعر البئر ولامسوا طينه، ولا يوجد أي حراك جدي لإنقاذ الموقف. لا أجد تفسيراً للهلع الذي أصاب بعضهم وما صاحبه من محاولات إرباك وتشويه ودعاية سلبية، بهدف قلب الطاولة على حالة الأمل التي صاحبت التفاهمات لدى الشعب الفلسطيني ومباركته لها، وإدراكه أن السفينة قد أقلعت بجهد قادة شجعان لديهم الجرأة على تحريك الراكد والمضي في مصالحة حقيقية ستصل كل الوطن.
مشاركة :