وصلتْ إلى معجون الطماطم

  • 7/16/2017
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

«مافيا الزراعة» هو التعبير المستخدم في الدوائر الرسمية الإيطالية للإشارة إلى الممارسات السائدة في هذا القطاع، والتي تتعرض بالطبع لملاحقة قانونية ضعيفة إن لم تكن معدومة، مقارنة بالإتجار بالمخدرات مثلاً، القطاع المزدهر بالطبع، ولكن المصنف «إجرامياً» بخلاف الأولى. صحافي فضولي شاب قرر التحقيق في مسيرة علب معجون الطماطم، بعدما اكتشف بالمصادفة البحتة حاويات صينية مليئة بهذه المادة ومركونة في باحة أحد المصانع في جنوب فرنسا. استمر تحقيقه لعامين ونصف العام، وشمل العالم كله (بالمعنى الحرفي) وخرج بكتاب صادر عن واحدة من أكبر دور النشر الفرنسية، باسم «امبرطورية الذهب الأحمر»، كاشفاً «فضيحة الموسم»: معجون الطماطم، المادة الغذائية الأوسع استخداماً في العالم، هي أولاً مصنوعة في الصين بالدرجة الأولى، بغض النظر عن التسميات التجارية وعما يمكن قراءته على عبواتها المسوّقة، من أنها إيطالية مثلاً (ومعناه أنها معبأة في إيطاليا). وأنها ثانياً تكاد لا تحوي طماطم إلا بنسب قليلة، بل هي مملوءة بمركبات مضافة متنوعة. والصحافي الشاب ذاك، جان باتيست ماليه، البالغ 30 عاماً، سبق له التحقيق في تركيبة ونشاطات شركة «أمازون» التي صارت أمبرطورية متعددة هي الأخرى، وغيرها، مما قد يجوز تسميته بالمافيات الموازية التي تفرخ كالفطر الصناعي (الذي ينبت على مسطحات موضوعة كرفوف متراصفة في مستودعات)، في ظل العولمة وتقديس «الأعمال الحرة» البالغة السيولة والمتفلتة من أي ضابط. وصلت أرباح بيزنس معجون الطماطم المعولم إلى 10 بلايين يورو عام 2014. ويقول الصحافي إن «شبكات الجريمة المنظمة المعنية بتزوير الملصق الموضوع على علبة الطماطم أو على قنينة زيت الزيتون، يمكن لأرباحها أن تعادل أرباح تجارة الكوكايين. لكن، عند افتضاح الشبكة، تأتي الأحكام الصادرة بحق المرتكبين أخف بكثير من تلك الصادرة بحق تجار المادة المخدرة». هناك «انفجار» في شيوع استخدام معجون الطماطم ومشتقاته، إذ تَضاعف ست مرات خلال الخمسين عاماً الماضية، ووصل في 2013 الى 64 مليون طن سنوياً. التغيير في العادات الغذائية بهذا الشكل لا يحدث تلقائياً وطبيعياً، بل يتبع «موضة» تتحكَم بها شركات الإعلان، ومجلات ترويجية، وسلسلة مطاعم جذابة إلخ... أي أن مسألة تشكّل الذائقة الغذائية تستحق التفكير. وعدا العلب الصغيرة، هناك «الكاتشاب»، المادة العالمية التي تكاد لا تخلو منها طاولة في مطعم أو منزل، والمعجون المستخدم في «البيزا» وهي الأخرى باتت وصفة عالمية. وللمفارقة فهذه المادة التي يستهلك منها البشر ما معدله 5 كلغ للفرد الواحد سنوياً في العالم لا يتناولها الصينيون ولا تدخل في عاداتهم الغذائية (حتى الآن)، لكنهم يزرعون نبتة لا علاقة لها فعلياً بالثمرة التي نعرفها. وهم ثاني منتج لها بعد الولايات المتحدة الأميركية، وكاليفورنيا تحديداً، لكنهم أكبر مورد عالمي. «الطماطم الصناعية» تلك (اسمها الرسمي) تنبت مطمورة تحت الارض، وتكاد تخلو من المياه، وهي سميكة القشرة، ولا تتعفن بسهولة وتتحمل النقل لمسافات كبيرة. وهذا، يا سادة، يسمونه «التعديل الجيني»، الذي تجادل مافيات (علمية هذه المرة) بأنه غير ضار بل هو يمثل وعداً بتوفير الغذاء للبشرية. ولأن الأيديولوجيا السائدة تُقطِّع أوصال المجالات، وتعزلها واحداً عن الآخر، فالخبراء في هذا المجال (واللوبيات العاملة بصلة مع السياسيين والإعلام، والمختبرات العاملة في خدمة شركات متنفذة، ومجلات علمية رصينة الخ... وهي حالة أخطبوطية) لا يذْكرون الرابط بين هذا التلاعب بالطبيعة وتكاثر أمراض قاتلة كالسرطانات مثلاً والحساسيات المتنوعة، وأخرى جديدة تتوالد كل يوم. المهم: صاحبنا اكتشف ما هو أكثر إثارة للفزع: أن تركيب هذا المعجون ليس من هذه الطماطم وحدها. ففي ما يُصدَّر إلى أفريقيا، المستهلك الكبير للمادة، لا يوجد أكثر من 31 في المئة من الطماطم في المعجون، بينما التركيب الرئيسي مكوّن من مواد أخرى مضافة، بعضها «طبيعي» كالنشاء (المعدل جينياً بالطبع حيث هو أيضاً منتج بمواصفات صناعية) وبعضها الآخر اصطناعي بحت يُرمز إليه بأحرف تليها أرقام، وسعر مثل هذه العبوة أدنى بكثير من مثيلتها المنتجة محلياً، وهي تغزو الأسواق وتؤدي غالباً إلى إفلاس الشركات المحلية. وهذا كشف ما كنا جميعاً نخمنه، راضين به في شكل من الأشكال كمسلمة بديهية: من أن ما يُصدَّر إلى البلدان «الفقيرة» (ومنها بلداننا)، ليس هو نفسه ما يُصدّر إلى أوروبا الغربية مثلاً، وأن ذلك يعود إلى «قوانين» كل بلد، أي إلى مستوى الرقابة التي تمارسها السلطات، أو مستوى الفساد والرشوة التي يمكن اتباعها لتمرير الأشياء. يقول ماليه إن حفنة من المستثمرين يتحكمون بهذا السوق المربح، مستغلين تحرير التبادل التجاري العالمي من جهة، والقوانين التي تجيز كتابة مكان التحويل والتعبئة كمصدر للمنتج، ما يسمح بالتمويه على مسيرته. وهو يتساءل عن السبب الذي يجعل أوروبا تستوردها ولا تكتفي بالمنتج منها في إسبانيا والبرتغال واليونان وحتى إيطاليا وفرنسا. ... لماذا لا نعود هنا في بلداننا إلى اقتناء معجون الطماطم الذي كان يُصنع في أريافنا، عوض شراء عبوات لا نعرف عنها شيئاً. هل هي دعوة رجعية؟ ذلك يسمح بتوفير عمل للمزارعين ولمهارات محلية، وبإنعاش أرياف معدمة باتت شبه مهجورة. ويسمح بتناول غذاء أنظف وأكثر صحية. طيّب! فلنترك جانباً تلك المراجل العملاقة التي شاهدتُها في طفولتي موضوعة على موقد خشبي في حدائق القرى، تحركها بواسطة عصي كبيرة نسوة خبيرات وصبورات، ويغلو في داخلها عصير الطماطم لساعات حتى يتكثف ويصبح معجوناً. لماذا، عوض نشاط المضاربات العقيم المترافق مع وهم التربح السريع، لا تَنشأ صناعات محلية في بلدان زراعية بامتياز كالمغرب وتونس وسورية والعراق... تُنتج هذه المواد وتصدّرها للأسواق المحلية والاقليمية، وتحميها السلطات رغماً عن قوانين «الغات» ومنظمة التجارة العالمية. وفي هذا تراجع عن مفهوم «التنمية الاقتصادية» كما ساد بعد الحرب العالمية الثانية، إذ يتبين كل يوم حجم الأهوال، الصحية والغذائية، ولكن أيضاً الاجتماعية والاقتصادية، التي أنتجها هذا النمط. أم أن الناس «يستمرون باطمئنان أو تسليم بالسير نحو الهاوية»، كما قال الفيلسوف وعالم الاجتماع الكبير إدغار موران؟

مشاركة :