تشكيلي مصري يحرر المرأة بقلم: شريف الشافعي

  • 7/16/2017
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

الفنان التشكيلي عبدالسلام أفرغ طاقته كاملة عبر التنويعات الفنية المتعددة بمعرضه الجديد في صرخة واحدة هي صرخة الأنثى، فجاءت الرسالة مكثفة واضحة.العرب شريف الشافعي [نُشر في 2017/07/16، العدد: 10693، ص(14)]هي في دائرة العنف.. صرخة نسوية احتفل الفنان التشكيلي عبدالسلام عيد بـ”عام المرأة المصرية” (2017)، على طريقته الخاصة، إذ استخلص ضمنيًّا من “نون النسوة” معرضه الجديد “هي في دائرة العنف” (3-12 يوليو، القاهرة، قاعة الأهرام للفن)، وبدا كأنه يهديه إلى “تاء التأنيث”. خبرات الدكتور عبدالسلام عيد (74 عامًا) في التصوير والنحت والجداريات والكولاج والجرافيك والخامات المألوفة والغرائبية تمثلت في فضاء المعرض الذي أطلق فيه كبسولاته التعبيرية المتفجرة على نحو يمكن وصفه بالعنف الفني أو الجماليات المرعبة في مواجهة واقع أكثر عنفًا وأشدّ رعبًا. في معرضه “هي في دائرة العنف” الذي افتتحه وزير الثقافة المصري حلمي النمنم بدا عيد فنانا وأستاذ تصوير في آنٍ واحد، تتلاقى تخييلاته التلقائية والعجائبية مع إعمال ذهني واشتغال هندسي واضحين من أجل فكرة محورية تبدو هي المحرّك الأساسي لمنظومة الأعمال كلها المنتمية إلى مجالات وخامات تشكيلية متنوعة، هذه الفكرة المركزية المهيمنة هي إبراز معاناة المرأة ومحاولة تحريرها من القهر المجتمعي. عبدالسلام عيد، التشكيلي المخضرم صاحب جائزة الدولة التقديرية والمجسّمات والجداريات المشهودة في أنحاء العالم ومنها جدارية متحف “توني جارنييه” بفرنسا و”مجسم آفاق القرن الواحد والعشرين” بالسعودية، أفرغ طاقته كاملة عبر التنويعات الفنية المتعددة بمعرضه الجديد في صرخة واحدة، هي صرخة الأنثى، فجاءت الرسالة مكثفة واضحة كرصاصة تعرف هدفها المحدد بغير تأويلات ودون تشويش.المشانق والأطراف المبتورة والجماجم المشقوقة "جماليات مرعبة" في تجربة الفنان.. تفضح انتهاك الأنثى من خلال ممارسات الختان والتحرش والضغوط الأسرية حبال وجماجم طغيان الفكرة لم يمنع الفنان من الاستمرار في مشواره التجريبي خصوصًا في الكولاج والمجسمات والتعاطي مع خامات ومواد غير مألوفة، فلطالما خلع عبدالسلام عيد صفة الحياة على المهملات والبقايا ومنتقيات الروبابيكيا، وتجاورت في تركيباته المدهشة الألياف والأقمشة والعجائن والكراتين وشباك الصيد وتروس الماكينات وغيرها. النسق الجديد، التفاعلي بالضرورة، هو رهان عبدالسلام عيد دائمًا، فالتركيب لا يعني تجميعًا سطحيًّا لمتنافرات بقدر ما يقود إلى هندسة بنائية متناغمة، ظاهرة أو خفية. في معرضه “هي في دائرة العنف” وجد الفنّان ضالته في الحبال كي ينصب في مجسماته مشانق تتسع للأنثى، بل لأنوثة الكون، فمرة تلتف المشنقة حول عنق المرأة، وتارة حول أحد أطرافها، وأخرى حول جسدها بأكمله. الأطراف المبتورة أيضًا والجماجم المشقوقة والأعضاء البشرية النازفة الدامية والأجنة المحاصرة في الأرحام والبطون والصغيرات الموؤودات وهن أحياء والرموز الأنثوية البيولوجية المشوهة هي كلها عناصر “الجماليات المرعبة” في مجسمات الفنان عبدالسلام عيد وتكويناته الكولاجية المعبرة عن قهر الأنوثة على وجه العموم، والدالة على قضايا نسوية بعينها، من قبيل الانتهاك البدني للفتيات بفعل الختان وممارسات التحرش والتعامل مع المرأة كوعاء شهواني، والعنف الأسري ضد المستضعفات السجينات في بيوتهن وأجسادهن على السواء. من تقنيات الفنان عبدالسلام عيد الجديدة بمعرضه “هي في دائرة العنف” تلك القدرة على التطويع الفني للمانيكانات (تماثيل عرض الأزياء في فاترينات المحلات). هذه الدمى ليست مجرد أشكال في تجربة الفنان، فهو أراد تقديم “نساء بلاستيكيات” مفرغات من الروح والطاقة ومعالم الحياة في عالم منزوع الضمير والرحمة، خصوصًا إزاء كل ما يخص المرأة. هذه النكهة المفقودة لدى المرأة هي النتيجة الحتمية لما أرادته المجتمعات القاهرة، ويمثلها الفنان في تكوين آخر بالزهرة التي بلا رحيق وبغير أطراف. هذا “الاصطناع” في كل شيء هو الذي وصل بالفنان إلى اختزال الرجل في صورة “علامة ذكورة” يحق لها كل شيء في أيّ وقت، وتلخيص المرأة في صورة “علامة أنوثة” مدحورة مسلوبة الإرادة والأهلية على طول الخط. ويمضي الفنان عبدالسلام عيد، صاحب الأعمال العملاقة ومنها “جداريات قناة السويس الجديدة” على مساحة 500 متر مربع من الزجاج الملون والفسيفساء والأحجار، خطوات ملموسة في تعامله مع الحجر بمعرضه “هي في دائرة العنف”، وجاء ذلك متسقًا مع تطويع المعادن كذلك، كما في تلك الأكفّ المسنونة التي تخمش وجوه النساء أو تغطّي عيونهن في إشارة إلى إيذاء البدن وإهدار الوعي وإطفاء البصيرة.الخلفيات اللونية كذلك لبعض تركيبات عبدالسلام عيد ومجسماته تحيل بشكل مباشر إلى قرص الشمس الغارق في البحر عند الغروب، وتزيد الغرائبية بوقوع الأنثى الشاردة انعكاسات العصر مفردات معرض عبدالسلام عيد الجديد عصرية بامتياز، عكست نزعته إلى أن تكون أصابع الفنان وخاماته منتمية إلى البيئة ذاتها التي يتناول قضاياها معرفيًّا وجماليًّا. الرؤية الكلية للفنان تبدو منسجمة، متصالحة مع ذاتها، رغم تنوع الثيمات التشكيلية والمواد والعناصر المستخدمة، بما يبرز قدرة الفنان على صهر التصوير والنحت والعمارة والكولاج في سياقات بينية أو عبر نوعية مبتكرة. عناصر عبدالسلام عيد الحديثة تكمن فيها سمات الحضارة والحس التاريخي، فهي ليست مفرغة من جذورها، فقطع الخشب مثلًا تتحدث بلغة الأشجار، وعُقد الحبال تستدعي طيف سفينة تقطع جهات الجغرافيا وتطوي خرائط الزمن. فالتراث يقول كلمته في المشهد المرئي من غير هيمنة ولا إغراق في الماضي. مغزى الفن في تجربة عبدالسلام عيد الأخيرة يتجاوز التعبير والتأثير إلى المقاومة والتحريض، فالصرخة التي تحمل صوتًا أنثويًّا خالصًا تفتح الباب على مصراعيه لتفجير قضايا مجتمعية هي الأبرز خلال العام الجاري (عام المرأة المصرية)، ورسالة الاحتجاج هنا ليست سلبية فعنوانها الرغبة في التغيير وتخطّي الراهن إلى أفق رحب وسماء خصبة جديرة بالتحليق. المرأة كما يشخصها عبدالسلام عيد في أعمال المعرض مفتوحة الملامح على ما هو فرعوني وقبطي وإسلامي وحديث، فهي “تراكم تاريخي” وليست فقط ابنة الحاضر الكابوسي، فالمجتمع يحاصرها بتلك المسلّمات البالية وقيود الأسر عبر العصور المتوالية. كذلك، فإن المرأة ممثلة في تجربة عبدالسلام عيد في مختلف سنوات عمرها، إذ هي وليدة القهر ورهينته في طفولتها وصباها وشبابها ثم في كهولتها. هذا الميل إلى التعميم في تمثيل ملامح المرأة في تجربة عبدالسلام عيد لا يتناقض مع النكهة السكندرية لدى الفنان، ابن المدينة الكوزموبوليتانية الجامعة للأجناس والمحتفظة بخصوصيتها في الوقت نفسه. في تفاصيل المرأة، وربما في نبضها الداخلي الدينامي، حيوية الأبيض المتوسط وملوحة الطقس وواقعية بنات بحري وسحرية عروس البحر. الخلفيات اللونية كذلك لبعض تركيبات عبدالسلام عيد ومجسماته تحيل بشكل مباشر إلى قرص الشمس الغارق في البحر عند الغروب، وتزيد الغرائبية بوقوع الأنثى الشاردة أسيرة شبكة صيّاد مجهول، فهل هي امرأة الإسكندرية الفارّة من الأرض أم عروس البحر الهاربة من الماء؟ إنها “هي” في دائرة العنف المتنامية مثل دوامة. كاتب من مصر

مشاركة :