الملل والنحل بين التقليد الأعمى والتقليد المستبصر "2"

  • 7/16/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

(تتمة) يبقى التقليد الأعمى مذموماً ومستقبَحاً كما كان من ذي قبل، فقد حذّر كل الرسل الكرام أقوامهم من خطر الاتباع من غير علم ولا هدى ولا كتاب مبين؛ لعلم الرسل الكرام من خطر الأستار الزائفة التي تحجب الأسرار والأنوار التي جاءوا بها والتي تحتاج إلى عقول مستقلة "أفلا يعقلون"، "لآيات لقوم يعقلون"، وقلوب مستبصرة "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" كما أخبر بذلك الحق سبحانه. فأصحاب هذه العقول والقلوب هم من الخواص والنخبة البشرية التي استطاعت أن تخرج من مستنقع التقليد والاتباع، الذي لن يتحرر منه قطيع الغنم إلى الأبد بحكم غياب العقل، وكذلك طائفة من الناس ممن كرّمهم الله بالعقل ليفحصوا به الحقيقة ويزنوها بميزانه، إلا أنهم أبوا إلا أن يبطلوا عمله، حتى انتهى بهم الحال كالأنعام التي تعيش على الاتباع والانقياد لسيدها أياً كان، وأضلّ من الأنعام؛ لأن الأنعام ليست محلاً للتعقّل وهم محل له، فلو كان للأنعام عقل لحكمت به هؤلاء وأجبرتهم على اتباعهم لها. من هنا، يبرز لنا أن قيمة الإنسان بعقله السليم الحر المؤمن بالحقيقة، وهذا عين الحكمة، فكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها"، وأجمل حكمة هي الحقيقة ولا أجمل منها؛ إذ إن الحكيم دائماً ما يبحث عن الحق والحقيقة في كل شيء؛ لذلك نجد أن كل الحكماء الذين مرّوا في التاريخ خلّدت لهم عبارات تدل على تحرر في عقولهم ونباهة في أذهانهم، بغض النظر عن صحة اعتقادهم ومذهبهم. فليس كل من استنارت بصيرته وبحث عن الحقيقة وجدها؛ فكثير ممن بحث ولم يجد لسبب من الأسباب إما لأن الحقيقة لم تصل له وإما لقصور العقل عن إدراكها، وإما لأن فترة الحياة لم تسمح بذلك، الحق هو أن تكون على الطريق الموصل للحقيقة، وتتخذ الوسائل المنهجية، والمهارات العقلية الموصلة لذلك، وهي متعددة؛ من فهم واستيعاب وتمييز وإدراك وتحليل واستنتاج واستخلاص وتساؤل. وكل هذه الوسائل والمهارات ممدوحة في الشرع ومطلوبة؛ فهي تنشئ لنا إنساناً عاقلاً كيّساً فطناً نبيهاً مبدعاً مجتهداً مجدداً ومنتجاً، وهذا هو الإنسان الواعي حقيقةً، وهذا هو المسلم الحقيقي الذي اختار الإسلام ولم يختره الإسلام، فنحن كغيرنا من أصحاب الأديان الأخرى اختارنا الدين تبعاً لبيئته وأرضه ومجتمعه وثقافته، ولم يختره إلا من رحم ربك، فكما يقال: الإنسان ابن بيئته. والولاء للجماعة كائن في كل المجتمعات في الغالب وهو القاعدة، فكما نقبل أن يكون لدينا مسلمون بالتقليد وبالوراثة دون إعمال للعقل فكذلك علينا أن نقبل غير المسلمين ممن ورثوا دينهم واعتقادهم دون إعمال للعقل، فإذا كنا لا نجعل لغير المسلمين كالمسيحيين العاديين فينبغي بميزان العدل والإنصاف ألا نجعل للمسلمين عذراً في أن يكونوا مسلمين دون أن يعرفوا ما هو الإسلام أصلاً وكثير ما هم. فكما هو لازم على إخواننا المسيحيين أن يتساءلوا ويبحثوا عن الحقيقة ويحتملوا وجودها في غير دينهم، فبإعمالهم لعقولهم وخروجهم من سجن التبعية العمياء وبعيداً عن المقولات التي ترهب من البحث في غير أصل التكوين العقدي. وهذه المستشرقة المسيحية كارين أرمسترونك والتي تعتبر من بين المستشرقين الشرفاء الذين يعدون على الأصابع، تقول في كتابها "محمد نبي زماننا": "لا يزال زماننا يحتاج إلى محمد صلى الله عليه وسلم"، فهذا الاستنتاج يعد مظهراً من مظاهر إعمال العقل الذي طولبنا به، فقد طولبنا بالاستيعاب قبل التحديث، لقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: نضّر الله امرأً سمع منا مقالة فوعاها (الشرط الأول)، ثم (الشرط الثاني) التبليغ. وكما أن للاستيعاب أهمية لإدراك الحقيقة والسر الكامن وراء الأشياء، فإن للتساؤل أهمية كذلك؛ فهو يوصلنا إلى فهم عمق الأشياء، فيكون إيماننا بها عن فهم ثم عن قناعة ثم التسليم المعقلن الواعي. وأيضاً من الأمور التي نبَّه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم مسألة الشك والتساؤل، فقال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم" (أخرجه البخاري-4537)، وهنا يقصد بالشك، الشك الموصل لليقين، فإبراهيم عليه السلام كان مرتاباً في كيفية إحياء الله للموتى ولم يصل إلى يقين الكيفية؛ إذ قال: "ربي أرني كيف تحيي الموتى"، رغم أنه كان مطمئنّاً لأصل الإحياء؛ لذلك لما سأله الله تعالى في قوله: "أولم تؤمن"، أجابه بـ"بلى آمنت يا رب بأنك تحيي، ولكن قلبي ليس مطمئناً لطريقة الإحياء، فأنا أتساءل كيف تفعل ذلك". من هنا، نستخلص أن التساؤل ضروري لبلوغ الحقيقة؛ فلو أن إبراهيم لم يتساءل ما وصلته الحقيقة ولظلّ كغيره لا يعرف شيئاً عن هذه الحقيقة، ولهذا بيَّن النبي -عليه السلام- أننا أحق بالشك منه؛ إذ بالشك تكون عقولنا فاعلة ونشيطة، فلو كانت عقول المسيحيين كلهم شكاكة لكان كثير منهم اليوم مسلمين، ولو كان المسلمون المتبعون دون تساؤل يتساءلون ثم يطّلعون على ما عند الآخر ثم ما عندهم- لقلنا هؤلاء هم المسلمون المؤمنون حقاً؛ لبحثهم. فنحن في زماننا هذا لا نريد فقط الإيمان الفطري بالله؛ لأنه لا يكفي للثبات على الإيمان فأبسط هزة مخالفة له قد تُفقده إيمانه؛ بل نحتاج إلى إيمان علمي مؤسَّس على البحث والدراسة السؤال، وهذا هو الأصل في التدين والإيمان، فاسأل قبل أن تتدين وافهم ثم آمن. كثير من الشباب يؤمنون بالدجال والمهدي المنتظر وخروج يأجوج ومأجوج في آخر الزمان، إيماناً حقيقياً، وإذا سألته عن أدلة على أن الدجال سيخرج في آخر الزمان تجده مندهشاً من السؤال وكأنك صفعته على خده؛ إذ لا يجد جواباً لسؤالك غير القول إن الشيخ الفلاني قد قال هذا، الشيخ العلاني يرى هذا! وهذا هو قبح التقليد الأعمى قبَّحه الله، فنحن نؤمن بالدجال لمجرد أن الشيخ الفلاني قد ذكر أنه ينبغي الإيمان به! وأشدد الإشارة هنا إلى أنه ليس عيباً أن يؤمن أحد بالدجال أو غيره، فإن كان إيمانه به مبنياً على دليل قد وصل إليه بنفسه، فهذا يدل على أنه قد تحرر من قيود التقليد الأعمى. العيب هو أن تؤمن بأي شيء قيل لك، دون تثبّت وبحث ودراسة، لمجرد سماعه من جهة معينة، كيفما كانت هذه الجهة، فرحم الله عبداً بحث عن الحقيقة وآمن بها واستطاع أن يدافع عما يؤمن به. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

مشاركة :