إعداد:عمر عدس جاءت السفن بما لا تشتهيه رياح تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، وبات مستقبلها السياسي رهن عملية النجاح في خروج «عادل» لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لاسيما بعد تنامي القلق لدى القادة الأوروبيين عمّا إذا كانت رئيسة الوزراء البريطانية، ستبقى طويلاً بما فيه الكفاية للتفاوض على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي من عدمه؟ في صباح يوم الجمعة، 9 يونيو/ حزيران، دلفت تيريزا ماي من الباب الأسود في داونينغ ستريت (مقر الحكومة) إلى قاعة خاوية. على هذا المكان، الذي كانت تمارَس السلطة فيه ذات يوم من خلال السيطرة والخوف، خيّمَ العجز، بعد فشلت مساعيها في الحصول على تفويض انتخابي قوي للتفاوض على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. عندما انفتح الباب على مصراعيه، قوبلت رئيسة الوزراء الشاحبة، بتصفيق موظفيها. وبعد بضعة أيام، في غرفة بيلارد في مقر مجلس الوزراء، تحدثت ماي بصوت متهدج شاكرة موظفيها على تلطفهم. ولكن زعامتها لن تعود إلى سالف عهدها أبداً. كان داونينغ ستريت قد غدا مكانا ًموحشاً. نِك تيموثي، وفيونا هِل، كبيرا مساعدي السيدة ماي، لم يرافقاها إلى مقر مجلس الوزراء في ذلك الصباح، وفي اليوم التالي استقالا. وبعد عدة أسابيع، يقول شهود العيان، إن مكتبها لا يزال مستنفداً، إذ بقيت مناصب رئيسية شاغرة. وقد قال أحدهم، «يبدو المعقل شبه خال، ويخيم عليه الفتور». أصبحت ماي تعطي انطباعاً بقلة الحيلة في بروكسل، في قمة المجلس الأوروبي، سُمح لها بتقديم عرض موجز عن خططها لحماية حقوق مواطني الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي راح فيه النادلون يجمعون آخر الأطباق. ماي التي طلبت من الناخبين إعطاءها تفويضاً قوياً بقدر مساوٍ للأغلبية الساحقة التي ضمِنها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، طُلِب منها بعد عرضها الموجز أن تغادر. قامت آلات التصوير بالتقاط صور رئيسة الوزراء، وهي تسير متجهمة منكسة الرأس، نحو السيارة التي تقف في انتظارها. في وستمنستر، تقلص دورها إلى تدبير صفقة مع ساسة رجعيين من إيرلندا الشمالية لتأمين أغلبية هشة في مجلس العموم، والتخلي عن العديد من السياسات المنصوص عليها في البيان الرسمي لحزب المحافظين، والتقليد الببغاوي لسياسات مكافحة التقشف التي تتبناها المعارضة العمّالية. إنها «الهزيمة في النصر»، كما يقول نيكولاس ماكفرسون، المسؤول الرفيع السابق، في وزارة الخزانة.الفراغ الناجمفي الوقت ذاته، يستغل الوزراء الفراغ الناجم، بإملاء الشروط على السيدة ماي علناً، بشأن الاتجاه المستقبلي المتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبالاقتصاد. باتت الإيجازات الصحفية والمنافسات على الخلافة، أكثر جرأة بمرور الأيام. وأصبح العرض الذي طرحته ماي أثناء الانتخابات عن القيادة «القوية والمستقرة»، مادة للسخرية والتندر تحاصر النواب المحافظين. ويرثي وزير محافظ الوضع الحالي قائلاً: «ليس ثمة خطة، ولا استراتيجية، ولا اتجاه». والسؤال المطروح الآن في بريطانيا وفي أوروبا، جدُّ بسيط: «كم من الوقت يمكن أن تصمد ماي، وهل تستطيع النهوض بعبء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟»لم تنجُ ماي من إذلال الانتخابات المبكرة في الشهر الماضي، إلاّ لأن المحافظين قرروا أن بدائل الزعيمة عند تجريدها من قوتها، أسوأ. في 9 يونيو/ حزيران، تقاطر كبار شخصيات الحزب على داونينغ ستريت، ليقولوا لرئيسة الوزراء، إن عليها واجباً نحو الحزب، ونحو البلاد، يفرض عليها البقاء. ويخشى معظم النواب المحافظين، أن يواجه الحزب في حال إطاحة السيدة ماي، منافسة على القيادة، من شأنها أن تقسّمه مرة أخرى، إزاء الموقف من أوروبا، وهذه المرة بين مَن يفضلون الخروج الصعب، ومَن يفضلون الخروج اللين من الاتحاد الأوروبي. وليس هنالك قائد واضح، والرابح النهائي لن يكون لديه تفويض مباشر من الشعب البريطاني، وقد يرث حزباً في حالة من التفسخ المقلق. وسوف تعلو الأصوات مطالبة بانتخابات أخرى، قد يفوز فيها زعيم حزب العمال جيريمي كوربن. وعلى الرغم من أن كوربن، ليس من أنصار الاتحاد الأوروبي، فإن عملية خروج بريطانيا منه، ستدبّ فيها الفوضى. وهنالك مزاج عام من الجدّية، وإحساس بأننا إذا «أسقطنا هذه الحكومة، فسوف تحل محلها حكومة ماركسية»، كما يقول أحد كبار النواب المحافظين. ويقول آخر: «الشخص الذي يحفظ وحدة الحزب هو جيريمي كوربن. فالخوف من كوربن أكبر من أي فارق بسيط في مفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي». بر الأمانوبموجب الخطة الأكثر شيوعاً التي عبّر عنها النواب المحافظون، يتمثل الهدف الأول في إيصال رئيسة الوزراء إلى برّ أمان العطلة الصيفية في 20 يوليو/ تموز. وبعد ذلك، إذا سار كل شيء على ما يُرام، فسوف تبقى ماي فترة تكفي للإشراف على الخروج من الاتحاد الأوروبي في مارس/ آذار 2019، وسوف تتحمل اللوم إذا سارت الأمور في اتجاه خاطئ. وبعد ذلك، أي بعد استنفاد دورها السياسي، سوف تسلم الزمام إلى زعيم جديد يأخذ الحزب إلى الانتخابات التالية في عام 2022. إنها لمهمة شاقة ولا تلقى حمْداً أو شكورا، ولكن السيدة ماي تصرّ على أنها مستعدة لها. قالت لنواب الحزب يوم 12 يونيو/ حزيران، «سوف أعمل طالما كنتم تريدونني.. لقد دخلنا في هذه الفوضى، وسوف نخرجُ منها». يقول أحد النواب المحافظين: «إن لديها شعوراً أصيلاً بالواجب». وقد حققت ماي الاستقرار في وضعها في الأيام الأخيرة. كان أداؤها البرلماني متيناً، بينما أخفق كوربن في استغلال ضعفها. وقد استبدلت تيموثي وماي هِل العدوانيين، برئيس واحد للموظفين، هو النائب السابق، الذي يحظى بالشعبية، غافين بارول. بعد زيارتها إلى موقع حريق برج غرينفل في الشهر الماضي، التي أخطأت تقديرها بطريقة بائسة، إذ تقاعست عن الالتقاء بالناجين من الحريق، مرت بضعة أيام أفضل، «فهي تضحك من جديد»، كما قال أحد المطلعين على الأمور في داونينغ ستريت. ولكن هذا الإرجاء للبلاء ربما يكون مؤقتاً. فقد تستمر ماي حتى العطلة الصيفية، ولكن قبضتها الهشة على زمام السلطة، سوف تتعرض للامتحان مرة أخرى في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، الذي ينذر بأن يكون خطيراً. في الاختبار الأول، تحضر ماي المؤتمر السنوي لحزب المحافظين في مانشستر. وسوف يشهد المؤتمر تزاحُم وزراء الحكومة على المناصب في منافسة القيادة التي يعتقدون أنها ستجري في الشهور ال18 القادمة. وقد بدأت بالفعل.ممنوع من الاقترابقبل الانتخابات، كان وضع السياسات الخاصة بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي مباشراً: كانت توضع داخل قلعة ماي عن طريق زمرة، يشكل تيموثي وماي هِل محورها، وكانت تُقدَّم إلى مجلس الوزراء باعتبارها أمراً واقعاً. وكان «الزعماء» يسيطرون على جميع سبل الوصول إلى رئيسة الوزراء؛ وكانت المشورة غير المرغوب فيها، أو المسؤولون «المفرطون في التشاؤم»، يُمنعون من الاقتراب. كانت التصريحات تصدر ضدّ ايفان روجرز، سفير بريطانيا السابق في الاتحاد الأوروبي، ثم أقصي عن وظيفته بسبب تقديم حقائق غير مريحة. وكان وزير المالية فيليب هاموند أيضاً، يُعتبَر وفقاً لمصادر مطلعة في داونينغ ستريت، متشائماً جدّاً بشأن الخروج، وكان يتعرض لسوء المعاملة من قِبل السيدة هِل في الاجتماعات. وكان يتوقع إقالته أيضاً لو فازت السيدة ماي بالأغلبية الساحقة في الانتخابات. ولذلك، عندما وضعت ماي «خطوطها الحمراء» لمفاوضات الخروج من الاتحاد الأوروبي، في مؤتمر العام الماضي، ِضمن خطاب كتبه تيموثي، لم تكن قد أجرت مشاورات شاملة في مجلس الوزراء. وعلى سبيل المثال، فإن إصرارها على أن محكمة العدل الأوروبية لا يمكن أن يكون لها دور مستقبلي في تسوية الخروج البريطاني، جاء دون سابق إنذار، وترك وزيرَ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ديفيد ديفيز، «مغلول اليدين» في المفاوضات، وفقاً لجيمس تشابمان، كبير مساعديه السابق. وقد أزالت الإطاحة بعد الانتخابات بتيموثي وهِل- حيث كانت هِل مشهورة بالتجسس على الزملاء، والتدقيق في ولائهم، ونشر رسائل نصية حساسة- الخوفَ الذي كان يخيم على إدارة السيدة ماي قبل الانتخابات. ففي ذلك الوقت، كان محظوراً على الوزراء إجراء مقابلات أو توضيح وجهات نظرهم: وبات ذلك الآن متاحاً للجميع. وحلّت محل الارتياب إعادة تقييم ملحوظة لما يجب أن يعنيه الخروج بدقة. يعترف أحد الوزراء قائلاً: «لم يكن هنالك أي نقاش من قبل». والمشكلة الوحيدة أنّ ذلك يأتي متأخراً جدّاً: فقد صوتت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل أكثر من عام، والوقت يمضي مقترباً من الخروج في مارس/ آذار 2019. قال أحد المطلعين على شؤون الحكومة، «سيكون جميلاً أن نعرف بالضبط ما نريد من الخروج من الاتحاد الأوروبي». ولم يطعن أي وزير كبير حتى الآن بصورة مباشرة في المبادئ الأساسية لاستراتيجية الخروج الصعب من الاتحاد الأوروبي، التي أعلنتها ماي في خطابها في لانكستر هاوس، في يناير/ كانون الثاني، والتي دعت إلى خروج بريطانيا من السوق الموحدة، والاتحاد الجمركي ونطاق المحكمة الأوروبية. ولكن أنصار الخروج اللين، بدأوا يضعفون شيئاً فشيئاً في مجلس الوزراء. الخسائر المتوقعةيضغط هاموند من أجل انتقال طويل تحتفظ خلاله بريطانيا بعلاقات وثيقة مع الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك البقاء في الاتحاد الجمركي. وتتحدى وزارة الخزانة، ليام فوكس، وزير التجارة الدولية، أن يثبت أن الصفقات التي يأمل في تأمينها عندما تغادر بريطانيا الاتحاد الجمركي في نهاية المطاف، تعوّض وتفوق الخسارة المتوقعة في التجارة مع الاتحاد الأوروبي. ويعارض هاموند بشدة تهديد ماي- أو تحايُلها- بأن بريطانيا يمكن أن تمضي بسهولة، دون عقد أي اتفاق على الإطلاق. ويقوم ديفيز، الذي يقول زملاؤه، إنه «أكثر مرونة مما يظن المرء»، باستكشاف طرق قد يكون لمحكمة العدل الأوروبية فيها دورُ مساندةٍ محدود، يسمح لبريطانيا بالاستمرار في المشاركة في الهيئات التنظيمية الأوروبية، بدلاً من إعادة إنشائها بتكلفة كبيرة على المستوى الوطني.آخر هدية لحزب المحافظينتنتظر المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل، وإيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسي إجابات من ماي: هل ستسعى إلى خروج أكثر ليناً وأطول أمداً، يمتدّ على سنوات، أم إلى النسخة الأصعب والأسرع، التي يفضلها بعضهم في حزبها؟ وإذا تجنبت الخروج الصعب، فسوف تجازف بإثارة غضب المشككين في الاتحاد الأوروبي. وخلال هذه المدة، ستهدف ماي إلى دفع تشريع لخروج بريطانيا ، خلال مجلس العموم عندما يكون لديها أغلبية عاملة تتكون من 13 مقعداً، وستكون عرضة للتمرد من قِبل المحافظين المؤيدين للاتحاد الأوروبي، ما يدفعها نحو نسخة للخروج أكثر ليناً، ويجرّد تهديدها بالابتعاد دون عقد اتفاق، من سلاحه. والسمّ يسري هنا وهنالك في النظام بالفعل. يقول أحد النواب المحافظين، مشيراً إلى زملائه المشككين بالاتحاد الأوروبي، «نستطيع أن نعمل مع نصف حزب العمال، ونسحق «الملاعين»، ويقول نائب رئيسي مؤيد للخروج، إنه لن يتسامح مع تهديدات التافهين للجناح المؤيد لأوروبا في حزبه. وفي مواجهة الخصوم في بروكسل، والانهيار في انضباط مجلس الوزراء، وتمزق الحزب إزاء أوروبا، يستطيع المرء أن يرى الآن لماذا كانت ماي تأمل في السيطرة الحديدية.صراع مبكر على خلافة مايبدأ المتنافسون المحتملون على خلافة ماي، مثل وزير الخارجية بوريس جونسون، ينقضون نسيج برنامج الحكومة للتقشف علناً، داعين إلى إنهاء الحد الأقصى في زيادة أجور القطاع العام، المحددة ب1%. وقامت اندريا ليدسوم، زعيمة مجلس العموم التي زاحمت ماي على قيادة الحزب عام 2016، بزيارة غير معلنة إلى برج غرينفل للاجتماع بالناجين، في خطوة اعتبرها 10 داونينغ ستريت محاولة سافرة لإظهار أنها أكثر تعاطفاً من رئيسة الوزراء. ولكن هذه الأعمال من تمرُّد الوزراء ليست شيئاً بالمقارنة مع المعركة العامة المحتدمة بين الوزراء حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، مع عدم قدرة رئيسة الوزراء على وقفها. وسوف يحاول أنصار الخروج الصعب، وأنصار الخروج اللين، إقناع المخلصين في حزب المحافظين، في مانشستر بوجهة نظرهم، قبل أسابيع قليلة من اضطرار ماي إلى حزم أمرها بشأن الكيفية التي تأمل في تنفيذ رحيل بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بها.
مشاركة :