الإبداع في المهجر.. البحث عن الذات الضائعة

  • 7/17/2017
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

الشارقة: محمدو لحبيب ثمة أزمة قديمة متجددة يعانيها كل أو أغلب المهاجرين من أصول عربية في معظم دول الغرب، ويعبر عنها غالباً في أدبيات علم الاجتماع بأنها أزمة اندماج في المجتمعات المحتضنة لبعض ذوي الأصول القادمة من خارجها. وبعيداً عن التنظيرات السياسية التي لم تقدم حلولاً تذكر لمشكل تجسيد الذات المهاجرة بكل خصوصياتها ورغباتها الإنسانية المشروعة في مجتمعات الغرب، تبقى تجربة الحلول الأدبية هي الأكثر نجاحاًَ حتى اللحظة في طرح ذاك الإشكال، ولفت انتباه الغرب وغيرهم إليه كمعطى إنساني جدير بالاهتمام والانتباه.من بين هذه التجارب الثقافية في مواجهة تعدد الهوية وأزمة الإحساس بالانتماء، يبرز في أفق البحث مثالان يشتركان في أن ملهمهما واحد، هو المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وأحد أشهر منظري مدرسة ما بعد الأدب الكولونيالي، وأحد الذين رفضوا بإصرار أن يتخلوا عن هويتهم ومشروعهم النضالي الثقافي من أجل حقوق بلده فلسطين والدفاع عنها في وجه الصهيونية الثقافية. تعتبر الروائية ليلى أبو العلا أنها تأثرت مبكراً بإدوارد سعيد، وخصوصاً حين قرأت كتابه الاستشراق، وأنها حاولت أن تكتب مثله، لكنها وجدت نفسها تتجه للسرد الروائي كشكل تعبيري، تفرج من خلاله عما تحتويه دواخلها من حنين لوطنها الأم، وتطرح من خلاله في نفس السياق رؤيتها لطريقة تسيير خصوصيتها الثقافية كامرأة مسلمة تعيش في مجتمع بريطاني، وتواجه سؤال التعايش مع ثقافته والانسجام معها دون أن تفقد ذاتها، ودون أن تخضع للتصنيفات التي يروجها الكثيرون في المجتمعات الغربية حول الإسلام والمسلمين.أما أزمة الكاتبة والفنانة المسرحية نجلاء إدوارد سعيد فتصدر عن منحى مختلف، فهي ليست كليلى أبو العلا وافدة في مرحلة الدراسة الجامعية على الغرب، بل هي مثال نموذجي إشكالي لأزمة الجيل الثاني من المواطنين الأمريكيين من أصول عربية. وتأثرها بوالدها لم يقتصر في الرابطة العاطفية التي تختصر علاقة أي أب بابنته فقط، بل بدأ ربما بشكل لا واع بمجرد إحساسها وهي في سن مبكرة أنها مختلفة جداً عما يحيط بها من مجتمع، فهي تعيش في بيت فلسطيني مشغول جداً بالأدب والشعر العربيين، وبإشكاليات التحرر من الاستعمار ومخلفاته، وبالنضال من أجل تحرر فلسطين من الاحتلال الصهيوني، وفي نفس الوقت وبالتزامن مع بيئتها الأسرية تعيش في الخارج تجربتها كأمريكية تعشق التمثيل المسرحي، وتحاول أن تحصل على دور مسرحي مهم لكن ملامحها العربية السمراء تمنعها من أن تجد سوى الأدوار الصغيرة.لقد عاشت نجلاء سعيد قضية فلسطين من خلال أبيها، وتأثرت بها وعاشت صراع هوية مرتبط معها، من خلال هويتها المزدوجة والمعقدة التي تفصح عنها في كتابها المعنون ب «البحث عن فلسطين» حين تقول إنها امرأة: ( فلسطينية - لبنانية - أمريكية - مسيحية).ورغم اختلاف ظروفهما وخصوصياتهما ومرجعياتهما الثقافية وحتى عمريهما، تشترك نجلاء إدوارد سعيد والروائية السودانية ليلى أبو العلا في أنهما واجهتا سؤال الانتماء، واضطرتا للإجابة عنه، واختارتا أن تفعلا ذلك بالكتابة، لأن الكتابة كما تقول أبو العلا في ظروفهما تلك هي محاولة للتسامي فوق المنفى الذي تعتبره قياساً على رأي إدوارد سعيد نفسه أسوأ مصير، وعقاباً شديداً لمن يفارق الأوطان.ومن الطبيعي جداً أن يختلف أسلوب تعبير نجلاء سعيد عن أسلوب تعبير أبو العلا بحسب القالب الأدبي الذي اختارته كل منهما، ففي حين تختار أبو العلا السرد الروائي، فإن نجلاء سعيد تكتب أدب السيرة الذاتية، بطريقة أقرب إلى روح المسرح الذي تعشقه، فتظهر في كتاب سيرتها الذاتية «البحث عن فلسطين» وكأنها تقدم مونودراما مكتوبة لتعكس عدة أصوات تعبر عن الهويات العديدة التي تتنازعها.ويمكن للقارئ لمقال نجلاء سعيد «عن أبي، عن إدوارد سعيد» والذي ترجمته بثينة الإبراهيم، أن يلحظ تلك الكتابة القلقة المعبرة عن الصراع مع الاغتراب، حين يتأمل في ترتيب الفقرات التي تشبه إلى حد كبير نوتة موسيقية تنتهي في كل فاصلة منها بنغمة نشاز حادة مختلفة عن المقطع الذي وردت فيه، فهي تبدأه قائلة: «أنا امرأة فلسطينيةٌ لبنانيةٌ أمريكيةٌ مسيحيةٌ، لكنني نشأتُ في مدينة نيويورك. ومع ذلك فقد بدأتُ حياتي كطفلةٍ أمريكيةٍ بروتستانتية، إذ ولدت في مدينة بوستن لأستاذٍ جامعيٍ يدرّس الأدبَ في واحدة من جامعات رابطة اللبلاب، وزوجته، وعُمّدْتُ في الكنيسة الأسقفية البروتستانتية في عامي الأول، وفي الخامسة من عمري ألحقت بمدرسة خاصة للبنات في منطقة «أبر إيست سايد» في مانهاتن، وهي مدرسة تفتخر بخريجاتها الأنيقات اللاتي تعتني بإعدادهن، من ذوات الدم الأزرق الأمريكي كالأسطورة جاكلين أوناسيس، «وفي تلك المرحلة أدركتُ أنّ هذا كله لا يناسبني»».ذلك المقطع الأخير من تلك الفقرة: «وفي تلك المرحلة أدركت أن هذا كله لا يناسبني»، والذي يظهر بوضوح وكأنه نزول من منطقة التصالح المصطنع مع الهوية الأمريكية إلى متن الواقع الذي يشير لهوية أخرى، يتكرر كأسلوب في عدة فقرات من نفس المقال، حيث تقول في مقطع آخر: «لقد كنتُ طالبة «مدرسة شابين» المثالية على أية حال بسترتي القطنية المخططة والبنطال الذي يتماشى معها وأرتديه تحت ثيابي لصفوف الرياضة والرقص، وياقة قميصي البيضاء التي تشبه ياقة «بيتر بان»، وجواربي الصوفية التي تصل حتى الركبة. كنتُ سعيدة بردائي الأخضر الجديد الذي يحمل شعار المدرسة الجميل وبحذائي الفرنسي الأنيق، ولكن «حتى هذا الزيّ الموحّد بتفاصيله الكثيرة لم يحمِني من إدراكي السريع لاختلافي، كنتُ جرذاً أسمر في بحرٍ من الجمال الأشقر»».ثم تقرر نجلاء سعيد في قمة إرهاقها من هذا الوضع المركب والمحيل لتشظ نفسي قاس أن تستسلم للوضع، ومن ثم تصوغ دفاعاتها النفسية الثقافية الخاصة حين تقول: «بعد سنوات من المحاولة الجادّة لإقناع الآخرين الذين لا يفهموني تماماً ولا يعرفون المكان الذي قدمت منه عائلتي، أقلعتُ عن ذلك، خاصةً أنه لا يوجد أحد حولي ليشعرني أني لست وحيدة فيما أشعر، وأرحتُ نفسي من الإيمان بصحّة ما يعتقده الآخرون حول ثقافتي، لأن ذلك كان مرهقاً وبلا جدوى، أعني محاولة إقناعهم بالعكس. ومع ذلك فقد تمسكتُ -على نحوٍ غريب- بقوةٍ بما أعرف أنه صحيح وحقيقي عن عائلتي وثقافتي، وكان والداي مسؤولين عن ذلك». نفس الحماس ومحاولة التسامي فوق تلك الازدواجية عن طريق الكتابة تفعلها ليلى أبو العلا في رواياتها المكتوبة كلها باللغة الإنجليزية، لكن ليلى تحاول تجنب الوصول إلى الاعتراف بالاختلاف المتناقض، وتعطي في رواياتها نموذجاً للمسلم الغربي الملتزم بدينه، والذي يقدم قيماً تصالحية، حضارية، راقية في تعامله حتى مع الأعداء، كما يظهر من خلال روايتها «كرم الأعداء» والتي تستعرض فيها قصة جهاد الإمام الشامل ضد الغزاة الروس في القوقاز، وكيف أنه تعامل مع بعض أسراه في تلك الحرب وكأنهم ضيوف عليه.ثم لا تغفل أبو العلا أن تقدم فرضية معينة عن مفهومها في المحافظة على هويتها المسلمة، حين تشير من خلال روايتها «المئذنة» إلى أن المرأة المسلمة في بريطانيا تستطيع أن تعيش جواً ملتزماً جداً بإيمانها كممارسات إجرائية دون أن تنشغل كثيراً بالتناقضات الخارجية، مع ذلك قد تبدو تجربة كل من نجلاء سعيد وليلى أبو العلا واعدة بكثير من الأمل في تغيير جدي في النظرة إلى العرب والمسلمين ثقافياً في الغرب، وكسر كل تلك الصور النمطية السلبية لدى الغرب، مما يسهل للعرب والمسلمين الاندماج داخل مجتمعات مهجرهم، لكن السؤال الأهم هو: هل تستطيع تلك التجارب الكتابية، وحتى تلك المسجلة في مجالات الثقافة الأخرى داخل الغرب، أن تحافظ حتى النهاية على جذوة الأمل في الخروج من بوتقة اغتراب الهوية ذاك؟ إنه فيما يبدو سؤال يتعلق بمعطيات مركبة عديدة وربما أقلها تأثيراً هو المعطى الثقافي.

مشاركة :