تختلف المناخات والأجواء باختلاف البيئة الحاضنة للمهرجانات الصيفية في لبنان. صحيح ان العدوى آخذة في الانتشار حتى لن تبقى دسكرة بلا مهرجان وفق تكهنات المبالغين في التفاؤل، والتفاعل! لكن الخلفيتين الاجتماعية والاقتصادية تلعبان دوراً بارزاً في تمييز كل تظاهرة عن غيرها. في صور مثلاً نفحة غجرية، بحرية، لامبالية بالمتوقع والمطلوب، وفي بيت الدين جدية يرافق التأنق فيها كياسات سمعية بصرية من شأنها تأطير تصرفات الجمهور وحصر ردود فعله ضمن المعقول والمقبول. اما في المهرجانات ذات الطابع المحلي الريفي، فتتدفق مظاهر الذات المحلية على المحتوى الفني وتختلط بها. قد يستقبلك رئيس البلدية او المختار او نائب المنطقة، وقد يصعد الى المسرح فصيح القوم ليعلن على الملأ ان المايسترو الفلاني المتحدر من اصول عريقة ضاربة الجذور في ارضه المعطاء قرر ان يؤلف سمفونية باسم بلدته الأم وكم نحن محظوظون لأننا سمعنا مقطعاً من تلك التحفة هذا المساء. لكن قد يصاب القوم بنوبة عطاء كريمة فيدور شبان وفتيات على الجمهور يوزعون الحلوى الشهيرة من شغل «ديّات» ام فلان. مساء اول من امس عشنا تجربة على قدر «حرزان» من التناقض في مهرجانات أرز تنورين: رأينا كيف يؤدي الإسراف في محاولات تنظيم المهرجان الى ارتباكات مؤسفة اصابت عدداً من الشبان والشابات المتطوعين والمتطوعات حين وقعوا في فخ انعدام الانسجام بين ما حمّلوه على حواسيبهم الذكية وما استجد على المشهد العام من مداخلات وتغييرات ارتجالية، فإذا بالحواسيب المفروض ان تعاونهم فقدت فعاليتها وأرسلتهم الى دوامة محزنة، اصابت شظاياها بعض الزائرين... من جهة اخرى تمدد التأخير المتوقع من نصف الساعة الكلاسيكي الى ساعة ونصف ساعة عبثية. الا ان الجميع، زواراً وعاملين، حافظوا على حدّ متمدن من اللياقة فتقبلوا اقدارهم بهدوء، ربما بسبب برودة المناخ وهيبة ارز الغابة التنورية! واخيراً اطلت «بنت الضيعة» سفيرة تنورين الى جهات الأرض الأربع، الآتية من التراتيل الى الأغاني، عبير نعمة. وللتوّ تبددت غيوم الانتظار الطويل وبدأ الإبحار السلس على متن صوتها المدرّب كأفراس القفز فوق الحواجز. ممسوك وطلق. قوي، عال، خافت، رخيم مثل نصل على حرير. «طلعت يا محلى نورها شمس الشمّوسي» تلتها بتقديم الأوركسترا والكورس وتوجيه الشكر إلى الجميع، وإعادة تأكيد انتمائها الفخور الى تنورين، بعدما استمعنا الى اغنية تعلي شأن كل من وقف على حصاة في تلك البلدة الشامخة. وغنت عبير «القهوة» من تلحين شربل روحانا و «قلبي دليلي» و «يا نسيم الريح قولي للرشا»... بعض الاغاني المفضلة والمرحب بها لدى الجمهور. لكن الأغاني المعقودة على اسمها «كالقهوة» جاءت اقل عدداً من تلك العائدة الى الموروث الراسخ في ذاكرة الناس، في انتظار ما سيتفتق عن تعاونها الأخير مع مارسيل خليفة وغيره من موسيقيي الصف الأول، كما يشاع. ما عاد في بال احد التشكيك في موهبة عبير نعمة وفي قدراتها الأدائية. ولذا بات محتماً ان نشهد لها قفزة نوعية باتجاه لون «عبيري» تحفر من خلاله اسمها في سجل كبار المغنين. لأن الاستمرار في استعارة اغاني الغير ليس لمن يجمع الموهبة الى المعرفة والمعرفة الى الإبداع.
مشاركة :