حدث أينشتاين - ذات مرة - عن هؤلاء الذين يطمحون إلى العيش معاً في "معبد العلم"، إنهم يعرفون قبل كل شيء أنهم أشخاص يتسمون بالغرابة في السلوك، وكذلك الانخفاض في القدرة على التواصل مع الآخرين مع ميل خاص لديهم إلى العيش في عزلة، لكنهم - مع ذلك كله - يشبه بعضهم بعضاً، أكثر من غيرهم من البشر الآخرين، ثم إنه تساءل أيضاً: ما الذي قادهم إلى ذلك المعبد؟ ثم أجاب قائلاً: "ليست الإجابة هنا يسيرة، ولا تقليدية، إنني أعتقد هنا -مع شوبنهور- أن أحد أقوى الدوافع التي تقود نحو الفن والعلم هو دافع التحليق بعيداً عن الحياة اليومية، بخشونتها المؤلمة، ووحشتها المؤَسّية.. هكذا يندفع بعض البشر بعيداً عن وجودهم الشخصي الخاص، نحو عالم يقوم على الملاحظة الموضوعية والفهم، وفيما شبه ذلك الميل الذي يغلب على سكان المدن المزدحمة المملوءة بالضجيج والمعوقات، فيدفعهم إلى أن يتجهوا نحو الجبال العالية الهادئة؛ حيث الهواء النقي، وحيث يمكن لأعينهم أن تتحرك بحرية عبر الفضاء الرحب الفسيح أمامهم، وحيث يبدو كأنه صنع من أجل الخلود. وهكذا تتضمن الثقافة - صناعة الموسيقى - البعد التأويلي للمكان الذي من خلاله تنتج المعرفة في سياق الزمن والفضاء. أما عن العلاقة بين الثقافة والمعرفة، فإنها مرشح رئيسي للتأويل الثقافي، باعتبار الموسيقى لغة كونية، وبالتالي فإن جغرافية إنتاج الموسيقى واستهلاكها متفاوتة جداً. ومع ذلك، مع الجزء الأكبر من التدفقات الموسيقية متنقلاً من الغرب إلى أماكن أخرى، عاكساً علاقات القوة الاقتصادية والسياسية المتجذرة في التاريخ الاستعماري. ويُسيطر على هذه الصناعات شركات عابرة للقوميات كبرى قليلة كان لها دور فعّال في نشر أشكال تغريبية من البوب والروك عبر الكوكب. وتلخص النتائج - إم تي في، والبيتلز، ومايكل جاكسون، وألفيس بريسلي، ومادونا - بطرق عديدة أطروحة عولمة الثقافة. في الماضي، كان انتشار الموسيقى محدوداً وبغياب التكنولوجيا المطلوبة لتسجيلها وإذاعتها، وهكذا كان موقع الإنتاج هو الأداء الحي. وانتشرت الأشكال الموسيقية من خلال شبكات معولمة بما في ذلك الديانات العالمية والإمبراطوريات وأنماط الهجرة المرتبطة بها. وتركت بعض التدفقات، مثل تجارة الرقيق من إفريقيا إلى القارة الأميركية إرثاً خاصاً دائماً من حيث الموسيقى الهجينة، مؤدية إلى البلوز والموسيقى الإنجيلية، وبطريقة مباشرة إلى الروك أند رول، وموسيقى السول، وموسيقى آر أند ني، والهيب - راب. وأدى فتح القارة الأميركية من لدن الإسبانيين والبرتغاليين إلى تكوين أشكال موسيقية جديدة تجمع بين الفلامينكو والموسيقى الكلاسيكية الغربية وموسيقى الإنديز التي يمكن سماعها بوضوح اليوم في موسيقى أميركا اللاتينية. أما الموسيقى الشعبية في العالم العربي باعتبارها جزءاً من ثقافة المجتمع، فإنها تمنح الناس إحساساً بالجماعة والانتماء - وهي بذلك من الوسائل الرئيسية التي تبنى من خلالها الهوية وتُقوى.. حتى وقت قريب اعتُبِرت الثقافات مستقرة نسبياً ومحدودة فضائياً. فهل يُمكن في هذه المرحلة وضمن الدوائر المعرفية والتراثية من إعادة استكشاف العلاقات بين الموسيقى الشعبية والهوية والفضاء؟! مع أن الدليل التاريخي لا يؤيد هذا بالضرورة، أدت العولمة المعاصرة إلى الاعتراف المتزايد بالروابط بين الأماكن البعيدة والمتفاوتة، وبين الرموز والأفكار، وهكذا فإن التأكيد في الجغرافيا الثقافية قد تحل من اعتبار للفضاءات المحدودة إلى تدفقات البضائع والناس والأفكار والصور والمعتقدات. هذا زمن مقلق بالنسبة إلى الهويات الثقافية بما أن العولمة قد تقدمت بسرعة لا نظير لها في أي مجال آخر. هل يعني ضمنياً تجانساً ثقافياً أو نقضاً لإقليمية الهوية؟ أم أن تلك الشواهد قد تتطلب فهم كيفية إعادة بناء فضاءات الثقافة والتنمية المتعددة؟ عندئذ فقط يمكننا أن نأمل في تكوين السياسة الانتقائية لمواجهة التحدي الذي يطرحه التفاوت، في حالة انعدام التناسق الجغرافي في القوة الذي ميّز دائماً صناعة الموسيقى العالمية. ومن هنا تتضح العلاقة المتشابكة والمتداخلة بين الثقافة والسياسة والاقتصاد واعتبارها نتاج البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للمجتمعات المؤطرة لها، والتي تنم عن إطار عمل سياسي ضمني قد يكون من المحتمل نتيجة لوجود نظام اجتماعي محدود سبق له الاعتراف بالثقافة التاريخية للمجتمع الذي يتميز بالغلبة والسطوة، ما دامت مؤسساته غير منحازة بطبيعتها. وبذلك كان التحدي المحوري في هذا السياق عبارة عن خلق هوية وطنية ونظام سياسي لا يرتكز على إقصاء بعض المجتمعات أو الوضع التمييزي لأخرى. أم أن هناك حاجزاً (حقيقياً أو وهمياً) قد نما بين البنية الاجتماعية والثقافة، ومن خلاله قد يتجلى دور النخب السياسية والفكرية إزاء المخاض الدولي الراهن في الشرق الأوسط حول جدلية الخلل البنيوي (إن وُجد) في سياقات / مسارات عولمة الثقافة في فضاءات صناعة الموسيقى الشعبية. * للتأمل: قد يغرس الشتات بذور ثقافة عالمية تقدمية تحتفل بالاختلاف والتنوع وتُبنى منهما. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :