من العسير على قارئ لم تتجاوز قراءاته بعض الوجبات الخفيفة مما تقدمه الصحافة اليومية أو الأدب التعليمي البسيط، أن يطمح إلى قراءة نصوصٍ عاليةٍ بتقانتها أو محمولاتها الفكرية وإيماءاتها الثقافية البعيدة.العرب علي جعفر العلاق [نُشر في 2017/07/17، العدد: 10694، ص(14)] حين يكتب الشاعر قصيدةً عن امرأةٍ أو ذئبٍ أو يومٍ عاصف فإنه يتنقل، مثل ظبي رشيق، بين كمائن عديدة، كمائن لا يمكن تخطيها بالطريقة ذاتها دائماً وفي كل الحالات. وكلّ كمينٍ، أعني كل حالةٍ أو فكرةٍ أو موضوعٍ، يتطلب من كاتب النص يقظة من نوع خاص لاجتناب هذا الفخ أو ذاك، أو الوقوع بواحد منهما بطريقة لائقة. والقصيدة حين تكتمل وتأخذ طريقها إلى المتلقي فقد لا يتبقّى من ثقل موضوعها الواقعي شيء كثير، أعني من دوافعها الأولى بعد أن اجتازت هي أو موضوعها أكثر من مصفاة لغوية وبلاغية وإيقاعية. في هذه الحالة قد يتبخّر الكثير من الكتلة الأولى للتجربة، ومن غلافها الواقعي. ثمة فجوات كثيرة مطلوب ملؤها. وبذلك يجد المتلقي فرصته في الذهاب بعيداً في تأويل النص، واقتراح أكثر من تفسير لهذه الصورة أو تلك من القصيدة. غير أن حرية القارئ أو المتلقي، في اقتراح تأويل ما للنص الذي يقرأه، ليست حرية مطلقة. ثمة حدود واشتراطات لا بد من التقيد بها. وإلاّ فإن قارئاً متعجلاً، أو قليل الكفاءة، قد يؤدي بالقصيدة إلى التهلكة الجمالية أو الدلالية. صحيح أن للقارئ العام حصته من أي نصّ يتعامل معه، ولا يمكن عملياً حرمانه من هذا الحق. له أن يقرأ ما يشاء، وله أن يستمتع بما يقرأ. وله أيضاً أن يُدْلي بدلوه مع الواردين على هذه البئر. ولكن ليس لهذا القارئ أن يذهب أبعد من قدراته، أبعد من خبرته في قراءة النصوص، أبعد من إحساسه الأدبي، إنْ كان له حصيلة يعتد بها من هذا الإحساس. وفي هذه الحال له أن ينشط في الحوافّ الأولى للقصيدة، في طبقاتها الأولى، له أن يتأمل واجهة المبنى، وأن يستغرق في تأمّلها، أو ينبهر بها كما يشتهي. أما تطلّعه إلى ما هو أبعد من ذلك فأمرٌ مرهون بما ادّخره من خبرة في قراءة ما تيسّر له من نصوص أدبية أو شعرية. فمن العسير على قارئ لم تتجاوز قراءاته بعض الوجبات الخفيفة مما تقدمه الصحافة اليومية أو الأدب التعليمي البسيط، من العسير عليه أن يطمح إلى قراءة نصوصٍ عاليةٍ بتقانتها أو محمولاتها الفكرية وإيماءاتها الثقافية البعيدة. وهنا قد نجد أنفسنا أمام مجموعة من الأسئلة الجادة: ألا نظلم النصّ الشعريّ أو نضيّق كثيراً من نقاط تماسه مع الحياة إذا افترضنا أن كل قصيدة، مهما كانت طبيعتها أو بنيتها أو موضوعها، هي دائماً وبالضرورة نصّ رمزي؟ ولماذا على القارئ أن يتجاوز معنى القصيدة الأول، معناها الحياتي، أو معناها الوحيد أحياناً، إلى معنى آخر مفترض وبعيد أو لا وجود له ربما؟ هل ينقص من قيمة القصيدة وغناها الجمالي حين تجسد موضوعاً حياتياً حسّيّاً، امرأة مثلاً، امرأة حقيقية؟ لماذا الإصرار في هذه الحالة على أن هذه المرأة هي الوطن، أو الحرية؟ أو الطفولة؟ لماذا الذهاب إلى التجريد، وتجنب ما في القصيدة من كثافة حسية للمعيش أو الكائن المكتفي بذاته؟ خاصة إذا كان النصّ لا يقبل تأويلاً رمزياً إلا بمشقةٍ بالغةٍ، أو لا يقبله أصلاً؟ إن هذا الافتراض لا يفلح دائما في الوصول إلى حصاد رمزي ذي قيمة. لأن إمعاننا في التجريد أو الركض وراء ظلال رمزية متوّهَمة، في نصٍّ ما، يبدو في الغالب وكأنه بحثٌ في اللاجدوى، أو ذهابٌ إلى مآلاتٍ لا يقبلها واقع النصّ بنيةً وحركةً ومكونات. شاعر عراقيعلي جعفر العلاق
مشاركة :