إن القرآن الكريم لم يطلق مسمى مدينة على التجمعات البشرية ذات الطابع الاستقراري والاستيطاني، إذ إنه كان يسميها بالقرية، وذلك توافقًا مع الظروف العربية الخاصة، ولعل هذه المحاولة البسيطة والعاجلة لفهم السياق الزماني والمكاني لعلاقة الإنسان العربي في شبه الجزيرة العربية مع البادية والقرية، وهو الذي جعله يشعر بهذا الاغتراب داخل أجواء المدينة التي أقيمت على الإسمنت والأعمدة الخرسانية واستبدلت «السكك» وهي الدروب الرملية الضيقة بالطرقَ المعبدة بالإسفلت، وهذا ما جعل الشاعر يصدر هذا الموقف المناهض للحضارة المدنية انجذابًا مع حياة «البدو الرحل» كما يقول وفق هذا السياق:أغنية من أغنيات الرحل / البدو/ العطاشىالمتعبين من الجفاف..هذا الشعور بالتهميش بالنسبة لشريحة مهمة من المجتمع في المنطقة، وعرضهم بهذه الصورة الحزينة، وإن كان هذا العرض جاء كاستنزاف ذهني لما كان يجري في الماضي، إنما يشير إلى تعميق التشظي النفسي في نفوس العديد من هؤلاء السكان.إن المتأمل في موقف عمري الرحيل الخاص بالمدينة يجد أنه موقف ذاتي تأملي لم يتطرق إلى الصخب أو الضجيج بل حتى في مسألة استحضاره الذهني للزمن الماضي من خلال عرضه لحال البدو الرحل، حيث إنه عرضهم من زاوية الغناء والشعور بالتعب والعطش والجفاف، أي إن هذه الصورة أشبه ما تكون بصورة ذهنية اختزلها الوعي في جمل شعرية صيغت بطريقة تأملية، وهذا ما سنلاحظه في نص آخر يتحدث فيه عن حبيبته التي تسكن الرياض أو وجدها في الرياض:يا حبيبة... تذكرين البارحة سولفت لككني ألمح ضحكة عيونك وراليل الرياضيظهر هذا الهاجس، ويتضح من خلال «ليل الرياض» لأن الليل مكمن الأسرار، وباستطاعة المرء أن يفعل ما يريد فيه ويخبئ ما شاء من أمور، فهو على الرغم من كونه ليل العاشقين والسمر فإنه في المقابل مكان الدسائس والمؤامرات، والشاعر هنا رغم جنوحه في هذا المقطع للتوجه العاطفي المشبع بالحب ولذة السهر، غير أنه لا يلتقط في الرياض إلا الليل أي الوقت الذي تتداخل فيه الأمور، ويصبح كل شيء غير ممكن ممكنًا والعكس صحيح كذلك، فهو لم يستحضر من عالم المدينة إلا هذا الوقت، وهذا مرده أن الوضوح أبعد ما يكون عن عالم المدن، فلا يمكن النظر إليها إلا من زاوية مظلمة، وهذا ما أشار له الشاعر «ألمح» لأن الرؤية الحقيقية غير واضحة، ولا يمكن التدقيق فيها في مثل هذا الجو. عندما ينظر خالد قماش إلى مكة المكرمة لا يرى فيها الحرم أو جبل الثور، ولا يرى فيها عرفات، حيث تطل أمامه الشرايع التي يختلط فيها المشردون بالمتدينين:الشرايع.. شي رايعتختلط فيها النقايضالمطوّع والمرفّع !صلكة شلة بزورةتنصرف من هالمدارسشايب يغزل غناءه كالمواجع..يشيل طرقه بالمواجع..قرقعة خلاطة الإسمنت في كل المواقع!ضجة أولاد الشوارع في ظهيرة حارقة..مكة المكرمة من أقدم الحواضر العربية في جزيرة العرب، إذ لم تكن في العالم بأسره، ينظر إليها الشاعر خالد قماش ليس من بوابتها المعتقة بالتاريخ أو المشبعة بأنفاس النبوة والرسالة المحمدية، إنه يتجاوز كل هذه الأمور التاريخية والروحانية، ولا يراها إلا من بوابة الشرايع الواقعة في شرق المدينة المقدسة، حيث يراها تضم مزيجًا من البشر «المطوّع» وهو الرجل المتدين، وكذلك «المرفّع» أي الإنسان الصائع المشرد الذي لا يرعى الفضيلة ولا يعترف بالتقاليد، بالإضافة إلى «شلة بزورة» وهم المجموعة من الأولاد الصغار. هذه التشكيلات الاجتماعية تتمازج بالعجوز «الشايب» الذي يغني أغانيه المشبعة بالمواجع حيث تتداخل كل هذه الأمور مع «خلاطة الإسمنت» مع لعب الأولاد الذين يلعبون في وقت الظهيرة، وكأن الشاعر لا يرى في هذه المدينة رغم خصوصيتها التاريخية والدينية إلا هذه النماذج التي لا تدل على تجانس أو توافق، في إشارة منه أن كل شيء في هذه الحياة تبدل عن حالته الأولى، فلا التاريخ أصبح له قيمة ولم يعد للدين أي دور في حياة الناس. وهذا ما أشار إليه صالح الشادي في سخرية واضحة وتهكم يدل على استخفافه بما وصلنا إليه:والله، وتمدنا..وصرنا ما نعرف الشاي..إلا بثلج!!وكن الشاي مزروع بشوارعنا..وكن الناس تمشي في شوارعنا، مع الاترنجيعرض الشادي الموقف من الحضارة المدنية بنوع من التهكم، وذلك من خلال هذا المقطع الذي عكس فيه حالة الإنسان في عالم المدن، «وصرنا ما نعرف الشاي إلا بثلج» وهو في هذه الالتقاطة يشير إلى إمكانية تصور هذه الحالة، وهي حال شرب الشاي مع الثلج، حيث إنه صار من المعروف أن شرب الشاي وفق توجهين، التوجه الأول، وهو توجه ظاهري مكشوف من خلال هذا الاستخدام، أي إننا صرنا لا نشرب الشاي إلا بارداً لا حارًّا، وفي هذا الاستعمال أصبحنا نتجرد من عادتنا المعروفة مع المشروبات، لأن دمنا أصبح باردًا لا حارًّا، وهذا ما كان يميل إليه الشاعر في العديد من نصوصه ذات التوجه السياسي، إذ صرنا نفقد من قيمنا أكثر مما نحافظ عليها، والتوجه الثاني، وهو أن هذا الشاي ليس ذلك «الشاي» المعروف، إذ إنه استخدم بديلاً لغويًّا عن شيء غير مرضي عنه اجتماعيًّا، وهو الخمر ومرادفات هذا الخمر الذي لا يكون مستساغاً إلا مع الثلج، لهذا كان يسخر من الوضع العام «وكن الشاي مزروع بشوارعنا» وذلك في تهكم على الظروف التي يمر بها الإنسان في عالم المدن، هذا العالم الذي سلب منه قيمه ومبادئه، وصار لا يرى المدينة إلا من خلال المشروبات «المثلجة» لأن كل شيء أصبح يحفزه على البرودة.
مشاركة :