«يا له من جزء يسير جداً من أفعال الإنسان وأقواله هو ذاك الذي يمكن أن تحتويه سيرته الذاتية! أما سيرة حياته الحقيقية فإنها إنما تدور داخل رأسه ولا يمكن أن تكون معروفة لأي شخص سواه. إن السير الذاتية المعروفة ليست في حقيقة أمرها سوى ثياب الإنسان وأزراره. علماً أن السيرة الحقيقية والصحيحة ليس في الإمكان كتابتها على الإطلاق». هذا ما كتب مارك توين يوماً يقوله عن فهمه للسيرة الذاتية معتبراً إياها مستحيلة. ومع هذا ثمة سيرة «ذاتية» له صدرت في العام 1910، أي في العام نفسه الذي رحل فيه عن عالمنا، تحمل عنواناً واضحاً ينم عن أن النص هو سيرته الذاتية الحقيقية. ومع هذا لا بد هنا من أن نسارع، دفعاً لأي التباس، الى التأكيد أن هذا النص لا يمكن اعتباره، من الناحية التقنية على الأقل «سيرة ذاتية» للكاتب الأميركي الكبير حتى وإن كان هذا هو عنوانه. فالحقيقة أن النص الذي يحمله الكتاب سيرة للكاتب أملاها بين العامين 1906 و1910 على الكاتب الشاب باين الذي كان في الأصل يشتغل على كتاب آخر يضم سيرة توين ليستخدمها باين في إنجاز كتابه، لكن هذا نشر النصين على انهما يتكاملان ليقدّما صورة عن حياة صاحب «هاكلبري فان» وغيره من كتب نعرف أنها كانت الأوسع انتشاراً خلال بدايات القرن العشرين وبعد ذلك أيضاً. ومهما يكن من أمر هنا، لا بد من الإشارة الى أن توين لم ينكر لا سيرته الذاتية ولا السيرة الأخرى التي كتبها باين، وذلك للسبب البسيط الذي لا شك في أن القارئ أدركه في السطور السابقة: توين لم يكن ينظر بجدية إذاً الى أي نص في السيرة وبالتالي اعتبر ما صدر عنه مجرد نصّ للقراءة يحتمل كل أنواع التأويل بصرف النظر عن صدقيته. > وهنا، قد يكون من المفيد أن ننقل عن توين، للمناسبة، بعض تفاصيل «فلسفته» في مجال كتابة ما سيُعتبر لاحقاً سيرة ذاتية. فهو يقول في معرض تقديمه النصح للكاتب في هذا المجال: «إبدأ بأية لحظة من لحظات حياتك وتجوّل كما يروق لك في تفاصيلها طولاً وعرضاً من دون أن تأبه بأي تتابع زمني منطقيّ. ثم لا تحكي إلا عما يثير اهتمامك في لحظة الكتابة نفسها. فهذا الذي يثير اهتمامك هو المهم مهما كان من شأن أهميته بالنسبة الى لحظته التاريخية التي حدث فيها. ثم في اللحظة التي يلوح لك فيها انه قد فقد أهميته، سارع بالإبتعاد عنه للتكلم عن أشياء جديدة تلوح أهميتها أمام عينيك ولو في شكل مباغت». فما الذي يعنيه مارك توين بهذا؟ بكل بساطة أن عليك ألا تهتم خلال كتابة سيرتك بأي تتابع زمني أو بأي تطور ذهني. فالكاتب، من خلال خوضه هذا النوع من الكتابة، إنما يضعنا على تماس مع سلسلة من الأحاديث والفقرات والشذرات المتحدثة عن مراحل ولحظات مختارة من حياته، قافزاً من طفولته الى اللحظة التي يملي فيها ما يرويه بعد ذلك بعشرات السنين، متحدثاً عن عائلته وطفولته وحياته ككاتب وكهولته، كما عن الناس الذين عرفهم واحتكّ بهم بصرف النظر عما إذا كانوا أشخاصاً معروفين أو غير معروفين. وهذا على أي حال ما يتّسم به هذا الكتاب الذي نتحدث عنه هنا والذي يبدو توين فيه وكأنه يطبق قبل جان لوك غودار بأكثر من نصف قرن تلك المقولة التي سيتحدث هذا بها عن سينماه إذ قال: «إن هناك وبكل تأكيد بداية ووسط ونهاية في كل عمل من أعمالي، لكنها ليست مرتبة على هذا النحو!». > للوهلة الأولى قد يبدو النص مشتتاً وكأنه يغرف من ذكريات انتقائية تحاول أن تجعل لنفسها تتابعاً يبحث عن منطق خاص به ولا يجد. لكن الحقيقة أن هذا كان مقصوداً من الكاتب العجوز الذي كان في ذلك الحين يدنو من عامه السبعين ويشعر - على الأرجح - بشيء من السأم أمام كاتب يأتيه بين الحين والآخر ليسأله أموراً تتعلق بسيرته كي يضمنها السيرة التي كان يشتغل عليها. ونعلم أن الأجوبة التي كان باين يحصل عليها لم تكن أول الأمر تهدف الى أكثر من أن تُستخدم في السيرة الأصلية التي يكتبها. غير أن جمال أسلوب توين في ما يرويه عن حياته وغرابة تلك المرويّات نفسها - غرابة جعلت كثراً من الدارسين للكتاب لاحقاً يرون أن فيها الكثير مما هو من بنات مخيلة الكاتب الكبير، وذلك قبل أن تأتي دراسات علمية لتؤكد كل كلمة من كلامه -، كل هذا دفع باين، وبالتوافق مع مارك توين نفسه ثم مع ورثته، الى نشر تلك الذكريات على حدة، فكانت المفاجأة ان النجاح الذي حققته لدى القراء، فاق نجاح كتاب السيرة. وهنا قد يكون من الضروري أن نفتح هلالين لنذكر أن مارك توين، حين قرأ وهو على فراش أيامه الأخيرة، النصّ النهائي الذي شكل تلك «السيرة الذاتية»، أبدى الكثير من الرضا وضحك كثيراً لكنه أصر على أن هذا الكتاب يجب ألا يُنشر إلا بعد مئة عام من موته. غير أنه عاد وتسامح بعض الشيء حيث نشر هو بنفسه، وعلى عجل، بعض الفصول في المجلة المسماة «نورث آميريكا» قبل أن يُنشر الكتاب كاملاً في العام 1924. > لقد أتت صفحات رائعة حقاً تلك التي يروي فيها توين - دون أدنى ترتيب زمني، كما أشرنا - مقاطع من حياته تمكنت على قلتها من أن تملأ كتاباً كاملاً. فهو يروي كيف انه في شكل مبكر اضطر وهو في الثانية عشرة الى ترك المدرسة إثر موت أبيه فاشتغل تباعاً عامل مطبعة وبحاراً على المراكب التي تمخر مياه نهر الميسيسيبي ثم مفتش حسابات وصحافياً ومحاضراً فكاتباً روائياً. كما أنه يروي وبلغة شيقة تعادل لغة نصوصه الكبرى إن لم تفُقها جمالاً في بعض الأحيان، حكايات ارتحاله أولاً في طول الولايات المتحدة الأميركية وعرضها وصولاً الى جزر صاندويتش التي، لسبب غير واضح، يسهب في الحديث عنها وعن زياراته لها، ثم تجواله في العديد من بلدان أوروبا الغربية ثم مناطق الشرق الأوسط وجزر برمودا. ويتوقف مطولاً عند جولة المحاضرات التي قام بها حول العالم وهو في الستين من عمره، لمجرد أن يكسب دريهمات يفي بها بعض ديون كانت سترسله الى السجن. ومن الواضح أن ما يطبع هذه «السيرة الذاتية» أكثر من أي شيء آخر، وفق مؤرخي حياة توين الذين كثيراً ما نهلوا منها، هو شخصيته نفسها، شخصية العصامي الذي صنع نفسه بنفسه وعرف كيف يكون مرحاً على الدوام وكيف يبتعد عن حسّ التشاؤم الذي كان يستبد به في بعض الظروف قالباً إياه الى تفاؤل يبدأ كاذباً لكنه سرعان ما يتحقق. > نعرف طبعاً أن تلك لم تكن المرة الأولى أو الوحيدة التي تحدث فيها مارك توين عن نفسه. فهو في الكثير من نصوصه لجأ الى لغة الذات، في شكل مباشر مثلاً كما في كتاب أدب الرحلة («رحلة الأبرياء») الذي وصف فيه مرافقته لرهط من الحجاج القاصدين الديار المقدسة في سفينة مكتظة ورفقة مضحكة مسلية، أو في شكل غير مباشر كما في روايته الأشهر «مغامرات توم صوير» التي لا يخفى على أحد أنها تكاد تكون سيرة ذاتية مواربة لطفولته، غير أنه في المرات الأخرى العديدة كان يعرف انه يكتب ما سيعتبر في نهاية الأمر أدباً روائياً يجوز فيه اللجوء الى الخيال كما يروق له ككاتب، أما هنا فإن الشطط غير مباح وبالتالي، مهما لجأ الى مخيلته، لا بد له في نهاية المطاف من أن يعود الى «جادة الصواب». والحقيقة ان مؤرخي حياة مارك توين - واسمه الحقيقي صمويل لانغهورن كليمنس (1839 - 1910) - أجمعوا على أن كل ما جاء في «السيرة الذاتية» كان صحيحاً لا خيال فيه ولا شطط، بل إنه يفسر الكثير من نصوص توين الأخرى ويتلاقى مع العدد الأكبر من رواياته وقصصه معطياً إياها نكهة إستثنائية، بل مضفياً حتى على أغرب ما في نصوصه الأخرى طعم صدقية يبدو نادراً بين مجايليه من الكتاب.
مشاركة :