من المُغلق إلى الفضاء المفتوح

  • 7/19/2017
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في الشعر تعتيم ونبذ لجوهر الحقيقة، باعتبار (بيركلي) إن الأشياء الحقيقية لا تصل الى حلم دائم، لذا فأن تغييب الحقيقة ينسجم مع ما يفرزه العمل الأدبي من قيمة إبداعية لأن الحقائق مُعرفة ومرهونة بقوانين للحكم على نتائج هذه الحقائق. يرى برغسون أن العقل مشبوه، وأن السبيل للوصول الى الحقيقة عن طريق الحدس أو الغريزة، وهذا الحدس أصطلح على تسميته "النبض الحي للأشياء". إن الحقائق الموجودة في الكون لا تعد ولا تحصى والتعبير عنها لا يتم بمجرد انطباعات جمالية من جانب اللغة التي تمسك جانبا من جانب الديمومة في العالم. يرى وايتهيد أنه لا يمكن التوصل الى الفريد والنادر إلا بالتركيب غير المباشر للحقيقة المحسوسة، إذ أن إدراك الشعر وتذوقه يتطلب قبولا روحياً وليس جهداً عقلياً. يقول ريتشاردز إن الشعرَ إيصال للمعاني وأنه مفتوح وقابل للتحليل وهذه المعاني هي إرضاء لحاجات اختلطت في اللاشعور ليتم التعبير عنها بهذا الكم من القلق. وأحيانا بهذا الشكل أو ذاك من الرمزيات، وإن من أحد أعمدة النص "العاطفة"، والعاطفة لدى الشاعر شكل مرئي حركي غير متوقف، وهي كما يعلقان رانسوم والن تيت: "لا يمكن ظهور عاطفة ما إلا بعد أن يهيئ شيء ما الفرصة لظهورها". وهذا الشيء هو الذي يعرفه البعض بالمنبه – المحفز – الصدمة ليتم التوافق ما بين العاطفة ومؤثرها لتثير المعاني عند خروجها فزع الشاعر وقلقه ضمن شيء من الغموض الذي يعتبر مصدرا من مصادر التأثير الجمالي بعد أن يكون الشاعر قد أحسن فهم خفايا التركيب الدقيق للغة الشعرية. إن الشاعر يبني من الأشياء المتداخلة وهو يبني دون أن يعي ما يفعل فيظهر ذلك من خلال صوره الكلامية ذات المنشأ العميق والمنبع الثر، كما أن التكرار في الصورة لدى الشاعر ذو أثر فعال يتم عبر إزاحة الصفة والوظيفة والعلاقة ولا يتم عبر شكله الإستنساخي عندما يصل الشاعر درجة توهجه لتتحول الذات من ذات مغلقة الى ذات مفتوحة تتصل بالأشياء الغرائبية داخل التجربة الإنسانية التي تحفل بكم هائل من النزعات التي ترفض التوفيقية والوسطية والسكون داخل النفس لأنها ليست نزعات مطلبية مادية بل هي نتاج لتألق روحي لن يطمأن الشاعر إلا بإطلاقها نحو مطلقه الرحب ليكمل حاجاته المستمرة نحو الأزلي حين يذوب المحسوس ويتهيأ القادم الجديد من المشاهد ليحل في الأماكن المعدة لها في شكل كلي وطليق لتتحول الأشكال بشكلها العمومي إلى أشكال خاصة. بعد تأمل الذات لها بفعل الاستغراب الذي يولد الدهشة المبدعة حين الدخول إلى الذات والخروج منها كما يقول هيجل وبمساعدة اللغة التي هي جهاز تكوين الأفكار وليست وسيلة للتعبير عن حقيقة جاهزة وهيَ لدى الشاعر وسيلة لكشف حقيقة مجهولة إذا ما أحاط بمتاهاتها وأستطاع من كشف أسرارها بقول باشلار. وهو ما يعزز الشعور بفرديتها اتجاهه أي شعوره بظهورها في مناخه، ولن تتكرر في مناخ غيره مادامت اللغة تجدد نفسها بمزيد من الخدع والمتاهات. وفي الشعر يُمجَد الكمال ويتم الانحناء له وهو متعدد الظهور بمعانيه وصوره ورموزه وما يريد أن يصل إليه في مزدوج المعنى ،ورغم غموضه، فهو يختزل أحيانا الكثير من الغموض ورغم إقرار الشعر بلغة المألوف، فهو لا يعيش إلا وسط اللغة الضوئية الساحرة، وهي الفضاء الذي يتمدد من خلاله الخيال إلى اللانهايات ولا يكتفي بتمدده بما ينتج، فالشعر يستعرض قواه بالخيال والخيال يؤمن له مصادر الطاقة التي تشحن بها المشاهد لبلوغ المتعة والقبول وتحريك النفس ضمن النزوع إلى شيء ما والنزعات المختلفة التي يسعى الشاعر للإفادة من تناقضاتها ضمن إجراءاته الردعية لأختيار المناسب والأمثل ليظل المنتج قابلا للتوالد بغير صوره والتعبير عن الفكرة بغير فكرتها ومعادلة المألوف بمفاجئته بعد أن تم الفصل بينها على مستويات التوظيف والحاجة. ويحدث أن يعي الشاعر بل يشعر بذلك أن هناك طاقة مجهولة في الألفاظ وفي الصور وفي الخيال وهي غير قابلة للتلف أو النسيان أو الضمور، أي أنها مخزنه بحجم قوتها وهي سَلِسَلة الإستخدام إذا ما تم تفجيره ليكون تدفقها في بيئة النص فضفاضا مرئيا ما بين أجزائه مثيراً للغز، فتصبح الكلمات نوعا من البارود تُفجر بواسطته شرارة الخيال. إن مجال الإغراء في الشعر واسع وكبير إذا ماتم الوصول الى الأبجدية الساحرة ومعرفة أماكن الشعوذة الإيحائية لتأمين العاطفة الحساسة البريئة والترتيل المباح أمام كل الأشياء التي سيراها الشاعر لاحقا، وبدون أي تحفظ بعد أن امتلك وسائل الدخول الى العالم الساحر وكشف دهاليزه .

مشاركة :