زوبعة في فنجان: هل كان شكسبير ملحداً أم علمانياً؟

  • 7/2/2014
  • 00:00
  • 48
  • 0
  • 0
news-picture

مثلما غاب (العلم) أيام شكسبير بالمعنى الذي نستخدمه اليوم، غاب الإلحاد أيضاً بالمعنى الحديث الذي وضعه ريتشارد دوكينز. بدأت تشق كلمة (الإلحاد) طريقها في اللغة الإنجليزية في القرن السادس عشر، ودائماً ما كان يشار إليها بإشارات غير لطيفة، واستخدم المصطلح للإذلال، وكان يطلق على أي شخص يُتصور أنه يحمل أي نوع من الهرطقات. وبالرغم من ذلك، زرعت بذور الشك. في كتابه (لمحة تاريخية موجزة عن الإلحاد) Short History of Atheism، يشير غافين هايمان إلى السنوات 1540 - 1630 باعتبارها الفترة التي (تطور فيها مفهوم رؤية كونية خارج إطار الإيمان وأصبح قابلاً للتصور بشكل تدريجي). ووقعت حياة شكسبير بالكامل خلال هذه الفترة الانتقالية (فقد ولد قبل 450 سنة)، وكما تلمح أعماله إلى بدايات العلوم، فإنها تلمح أيضاً إلى الإلحاد المحتمل. كان شكسبير صديقاً لأشهر ملحد مزعوم في هذا الوقت وهو الكاتب المسرحي كريستوفر مارلو. فمن خلال ما يزيد قليلاً على اثني عشر سطراً في مسرحية مارلو (يهودي من مالطا) Jew of Malta، يعلن المفكر السياسي الإيطالي نيكولو مكيافيلي: (أرى أن الدين ما هو إلا لعبة صبيانية..) وكان دكتور فاوست، وهو أهم بطل في الشخصيات التي أبدعها مارلو، أكثر خطورة، حيث يقول: «أعتقد أن الجحيم خرافة»، وربما كان الكاتب المسرحي يوافقه في هذا الرأي. لم يكن مارلو مجرد ملحد فحسب، فقد كان جاسوساً للحكومة ويقوم برصد أنشطة الكاثوليك الإنجليز خارج البلاد. كان مارلو أيضاً مثلي الجنس، وكان ذلك معروفاً عنه بشكل معلن في عصر كان يحكم فيه على الشاذ جنسياً بالموت. وكان جريئاً بما فيه الكفاية لتصوير العلاقة الغرامية بين الملك الشاب إدوارد الثاني وعشيقته المفضلة بيرس جافستون. وبعبارة أخرى، عاش مارلو بعيداً تماماً عن التيار الرئيسي المحترم للحياة الإنجليزية في عصر الملكة إليزابيث. تنبع الاتهامات الموجهة إلى مارلو بالإلحاد من عدة مصادر أولها شهادة كاتب مسرحي شهير آخر هو توماس كيد. فعندما عثر على جزء من إحدى الهرطقات في مسكن توماس كي، قال إن هذا الكلام يخص مارلو الذي كان يتقاسم معه المسكن عينه. ولكن أكثر الشهادات التي استقبلها (مجلس الملكة) إدانة لمارلو جاءت من رجل يدعى ريتشارد بينز (الذي كان جاسوساً أيضاً وهو ما يزيد من تعقيد الأمور). ويقول بينز إن مارلو كانت لديه وجهات نظر هرطقية بخصوص أجزاء محددة في الكتاب المقدس، مضيفاً أنه كان يؤمن (بأن موسى كان ساحراً). بعد ذلك، نتعرف على شهادة قاسية من القسيس البروتستانتي توماس بيرد. في كتاب بعنوان (مسرح القيامة) The Theatre of God’s Judgement الصادر في عام 1597، يحدد بيرد مجموعة من العقوبات التي تنتظر أنواعاً مختلفة من العصاة، ولم يكن خائفاً من ذكر أسمائهم. في حالة شكسبير، ليس لدينا أي دليل مباشر على إلحاده، كما لا توجد رسائل اتهام ولا تصريحات تنذر بذلك، كما لا يوجد -في الواقع- أي نوع من التهديد للنظام القائم من جانبه. (كم كانت حياته مملة مقارنة بمارلو!) وهكذا ننتقل، بحذر، لأعماله الدرامية. طرحت مسألة إلحاد شكسبير مؤخراً من قبل المؤلف إريك مالين في كتابه (شكسبير ملحداً) Godless Shakespeare. يبدأ مالين بدراسة مشهد جدير بالملاحظة في مسرحية (دقة بدقة) Measure for Measure، حيث يرزح كلاوديو المسكين في السجن، في انتظار الإعدام. تزوره أخته إيزابيل التي تتدرب لتكون راهبة. وتخطر فكرة على بال كلاوديو مفادها أنه قد يحصل على قرار بالإفراج عنه إذا قبلت إيزابيل أن تنام مع الدوق إنجيلو. ترفض إيزابيل هذه الفكرة (بطريقة معقولة جداً). وبعد ذلك، يسجل مالين وجود خطاب غير عادي حول طبيعة الموت. يقول كلاوديو: «... نموت، ولا نعرف إلى أين نذهب، نرقد في غرفة باردة مغلقة، وتتعفن، وتتحول هذه الحركة الدافئة المحسوسة إلى برودة، وتسبح هذه الروح السعيدة في فيض من النيران، أو تقيم في منطقة مرعبة من الجليد السميك المضلع لترزح تحت الرياح الشديدة التي تهب في عنف لا يهدأ وتدور حول العالم المعلق.. إنه لأمر فظيع!». لا ينظر مالين إلى هذا الكلام على أنه تعبير عن الخوف الذي يعتري كلاوديو، وإنما يبرز تأثيره على إيزابيل الذي يبدو إيمانها وقد تزعزع حقاً بما ألقي على أسماعها. يكتب مالين أن الصورة المعروضة (تبين الدين على أنه سادية مرعبة، وهذا نتاج قصور إيماني عميق ومخيب للآمال من أجل تحسين الظلمة أو التماشي مع تعقيدات الأنفس التي مستها الرغبة والوحدة واليأس) ماذا حدث لإيمان إيزابيل؟ يقول مالين إن ما نراه هنا وخلال المسرحية كلها عبارة عن (قناعات روحية تنهار تحت الضغط). يذهب شكسبير إلى ما هو أبعد من ذلك حتى في المسرحية المأساوية (تيتوس أندرونيكوس) Titus Andronicus حيث يقدم للجمهور أول ملحد يجهر بإلحاده علانية من خلال شخصية الوغد المغربي (آرون). عندما يتم أخذ آرون سجيناً، يحاول عقد صفقة مع آسره لوسيوس، ولكن لوسيوس يسأله: وماذا يفيد قسمٌ من ملحد؟ فيبادره آرون بسرعة: (غالباً ما يتميز المؤمنون بالحماقة والكذب، ومع ذلك نتصور أن في أيمانهم شيئاً). لاحظ كيف يتميز الأشرار الذين قدمهم شكسبير بسرعة البديهة!. لم يكن آرون مجرد وغد شرير. فقد كان شخصاً مناوراً بارعاً، كما ذكر مالين الذي يدرس في جامعة تكساس في مدينة أوستن: (يقوم آرون بتدبير الوقائع، فهو يحيك المؤامرات، ويمهد الطريق لأفعاله، ولديه أدواته التي يستخدمها في ذلك). وبعبارة أخرى، يعتبر آرون (أحد نماذج شكسبير المبكرة المعبرة عن عمله الخاص. فآرون كاتب مسرحي، ومن المقنع أن يكون انعكاساً لشكسبير نفسه). ما الذي أدى بشكسبير في هذا الاتجاه؟ يعتقد مالين أن هناك احتمالاً بأن شكسبير كان يحذو حذو صاحبه مارلو، أو لعله كان يحاول أن يفوقه. لننظر في حبكة رواية دكتور فاوست، هذا الطبيب الذي أبرم ميثاقاً مع الشيطان، ولم يكن الإله يهتم على ما يبدو. يقول مالين: «لم يظهر تدخل الإله في الرواية حقاً، ولم تظهر خيرية الإله على الإطلاق. وهذا احتمال مزعج جداً يقدمه لنا مارلو، ويلعب شكسبير على هذا الوتر، وبخاصة في الدراما التراجيدية التي كتبها». ولدينا بالطبع مسرحية (الملك لير) King Lear. في هذه المسرحية الأكثر تشاؤماً لشكسبير، غالباً ما كانت هناك مناشدات للآلهة –أطلقها الملك وجلوسستر وغيرهما– لكنها لم تستجب. لا يمكن ضمان العدل في غيابها، حيث يصبح هشاً في واقع الأمر. يأمل لير -في يأس- (أن تبرز الأحداث مثالاً أكثر عدلاً للسماوات)، ولكن ذلك يعد بمثابة قضية خاسرة. وتنتهي المسرحية، حسبما يقول ويليام إلتون، (بوفاة الخير على أيدي الشر). في أحد أكثر أبيات المسرحية شهرة وسوداوية، يقول جلوسستر في أسف: «نحن بالنسبة للآلهة كالذباب بالنسبة للأولاد المتوحشين/ يقتلوننا من أجل التسلية». في كتاب (الملك لير والآلهة) King Lear and the Gods، يقدم لنا إلتون نوعاً من المرجعية للمتشككين في عصر النهضة بما في ذلك إنكار العناية الإلهية، وإنكار خلود الروح، ووضع البشر بين البهائم، وإنكار دور الإله كخالق للكون، والنسب للطبيعة ما يحق نسبه للإله، ثم يبين أن لير يتطور إلى مثال لهذا المتشكك على مدار المسرحية. إنها عملية تدريجية، لكن لا هوادة فيها: (بمجرد أن تبدأ خيبة الأمل لدى لير، فإنها تجتاح كل شيء أمامها وتطيح بالقوالب الراسخة للإله والإنسان، والعدالة الإلهية والبشرية). وكما قال مالين في حوارنا، تعتبر مسرحية الملك لير في جوهرها (وثيقة إلحادية)، فهي تصور عالماً (فرغ من الألوهية). تقدم لنا كتابات شكسبير تلميحات أخرى عن إلحاده، ومنها التأملات المفرطة لشخصية هاملت عن الموت والاضمحلال، مع عدم وجود أي ذكر للآخرة. وفي مسرحية (العبرة بالخواتيم) All’s Well That Ends Well، تؤكد هيلينا (أن علاجنا يكمن غالباً في أنفسنا / بينما نعزو ذلك إلى السماء). ويؤكد (ماكبث) Macbeth أن الحياة ما هي إلا (حكاية، يرويها أحمق، ولا تدل على أي شيء). لا يدل كل ذلك على أن شكسبير كان ملحداً، ولكنها تبين ما يدل على ربما تصور عالم ملحد على الأقل. ولم يكن هناك أفضل مكان لإطلاق العنان للخيال من مسرح لندن، وهو المكان الذي كان يمكن فيه للمرء أن يخلع ملكاً، ويسخر من أحد النبلاء، ويشبه فيه الأمير بالصعلوك، ويتجاهل فيه ما هو سماوي، إنه المكان الذي يمكن للمرء فيه أن يكون مخرباً وفي نفس الوقت يتجنب حبل المشنقة. يبدو أن فكرة (شكسبير ملحداً) قد ترسخت في السنوات الأولى من القرن العشرين، عن طريق الصدفة، أو ربما لا، وهو نفس الوقت الذي خيل فيه أن مسرحية الملك لير تفوق هاملت في عظمتها. وكما كتب جورج سانتيانا، واجه الكاتب المسرحي خياراً قاسياً: (كان خيار شكسبير، من حيث الدين، يقع بين المسيحية والعدم. لكنه اختار العدم. كان الكون يراوغه، ولم يكن يشعر بحاجة إلى تأطير هذه الفكرة. وقام بتصوير الحياة البشرية بكل ما فيها من ثراء وتنوع، لكنه ترك هذه الحياة دون خط أساسي، وبالتالي دون معنى). كان (العدم)، بطبيعة الحال، أحد الموضوعات المهمة في الملك لير، ففي المشهد الأول، سمعنا صوته أربع مرات. لقد أمطرت الأخوات الأشرار، ريجان وجونرل، والدهم بسيل مفرط من الكلمات التي تنم عن التفاني. ويسأل لير ابنته الثالثة، كورديليا، عما يمكن أن تقوله لتبز أخواتها: كورديليا: لا شيء يا سيدي. لير: لا شيء؟ كورديليا: لا شيء. لير: لا شيء ينبع من لا شيء، تحدثي مرة أخرى. يقوم شكسبير بإعداد المسرح، لتعم الفوضى والظلام جميع الأرجاء بعد ذلك. هل اختار الكاتب المسرحي (العدم)؟ لا يذهب مالين إلى هذا الحد. لكنه يقول إن مسرحية الملك لير تفتقر إلى (صورة الكون الخير، النابع من ألوهية خيرة). قد يرجع هذا جزئياً إلى عدم إيمان المؤلف، كما يقول مالين، ولكن قد يرجع ذلك إلى أن شكسبير لم يضع القوى الغيبية ضمن أولوياته. ويضيف مالين: (إنه مهتم بكل ما هو اجتماعي ودنيوني وجنسي ولغوي. إنه مهتم بما يحدث على هذا الكوكب. ما يهمه هو ما نفعله أثناء وجودنا هنا. ويبدو لي هذا موضوعاً حداثياً جداً). يضع الفيلسوف كولن ماكجين، مؤلف كتاب (فلسفة شكسبير) Shakespeare’s Philosophy، في اعتباره مسألة وصم شكسبير بالإلحاد ولكنه يفضل وصف شكسبير بأنه (طبيعي) naturalist. ويصف تفكيره الأخلاقي بأنه (علماني تماماً). (فهو يقول ببساطة هذا ما عليه الأمر، شئت أم أبيت). ويقول ماكجين: «دائماً ما يردد الناس مقولة أن (الأشياء تحدث بسبب). ولكن الأمر ليس كذلك. فأحياناً ما تحدث الأمور دون سبب على الإطلاق. أعتقد أن هذا جزء من نظرة شكسبير الكلية (في الملك لير). أعتقد أن شكسبير يميل كثيراً للتشاؤم. إنها وجهة نظر قاتمة جداً حول عدم وجود معنى لأي شيء». قد تروج نظريات (شكسبير ملحداً) ولكن يمكن النظر إليها أيضاً على أنها الفصل الأخير في القصة التي لا تنتهي عن معتقدات شكسبير الدينية، وهو موضوع ينطوي على تحقيق وتخمين لا حصر له. لقد قيل عنه كل شيء بدءاً من وصفه بالكاثوليكي الصنديد إلى المدافع عن دين الدولة البروتستانتي، ويظن المرء أن الحقيقة أكثر قتامة من ذلك. وبغض النظر عن معتقده، كان شكسبير مدركاً جيداً للألم الناجم عن النزاع الديني وسط الاضطرابات الدينية التي شابت النفس الإنجليزية في النصف الأول من القرن السادس عشر. لا يمكننا وصف شكسبير بالملحد بصورة نهائية، حتى لو كنا نشك بوجود تلميحات من هذا القبيل في أعماله. كل ما يمكننا قوله إنه عاش في زمن بالغ الأهمية في تاريخ اللغة الإنجليزية، زمن خضعت فيه المعتقدات القديمة الراسخة للنقاش، زمن من الأفكار المتنافسة والقيم المتضاربة، زمن يعتريه الشك والارتباك. وسواء اعتقد شكسبير سراً من عدمه أن الكون بلا معنى، لن نعرف أبداً، على الرغم من اعتقاد البعض أنه لم يكن كذلك. وأياً ما كان يمكن للمرء أن يكتشف (أو لا يكتشف) في أعماق الفضاء وهنا على الأرض، فهناك أماكن يمكننا الذهاب إليها وأصدقاء نعتز بهم وعشاق نهدي إليهم الغزل وقتلة ننتقم منهم. ولكن شكسبير، الذي كتب إلينا منذ 400 عام، كان يتألم على الأقل من معرفته باحتمال أن هذا هو كل ما عليه هذه الحياة.

مشاركة :