القاهرة: «الخليج» كان أثر ابن رشد عظيماً في توجيه الثقافة الأوروبية منذ القرن الثالث عشر الميلادي، سواء أكان ذلك التأثير في مجال الدراسة العلمية أم في مجال الدراسة الفلسفية والدينية، ويكفي أن يكون هناك ما يمكن أن نطلق عليه طلائع النهضة الحديثة الأوروبية، والذين كانوا ينسبون أنفسهم إليه، فيقولون إنهم «الرشديون اللاتينيون»، أما في مجال التفكير الفلسفي فلا يزال أثر ابن رشد واضحاً في فلسفة العصور الوسطى الأوروبية، وبخاصة في تفكير توماس الأكويني، أما في العصر الحديث فإن تفكيره لا يزال ماثلاً في المدرسة الأكوينية الجديدة.ظهر ابن رشد وعلا شأنه في دولة الموحدين، وكانت هذه الدولة تفسح صدرها للعلماء والفلاسفة، على عكس دولة المرابطين التي ضاقت بهم، وقدمت عليهم طائفة الفقهاء، وكان ابن رشد ينتمي إلى أسرة من أكبر الأسر العربية شهرة في الأندلس؛ إذ كانت أسرة علم وقضاء، وقد وصف أحد الكتاب جد ابن رشد قائلاً: «كان فقيهاً عالماً حافظاً للفقه مقدماً فيه على جميع أهل عصره، عارفاً بالفتوى على مذهب مالك وأصحابه، من أهل الرياسة والعلم والبراعة والفهم، مع الدين والفضل والوقار والهدى والصلاح، تقلد القضاء بقرطبة، وسار فيه بأحسن سيرة وأقوم طريقة».ولد ابن رشد «سنة 520 هجرية - 1126 ميلادية» وحصّل العلوم العربية والإسلامية ودرس الطب والحكمة، وعاصر ابن طفيل صاحب القصة الفلسفية المشهورة «حي بن يقظان» وهو الذي قدمه إلى الخليفة «أبي يعقوب يوسف» الذي أراد أن يختبره في مسألة من مسائل الفلسفة، فأظهر ابن رشد الحرج، حتى طمأنه الأمير، فانطلق في الحديث، ثم ما لبث الأمير أن عهد إليه بمهمة شرح كتب أرسطو التي عرف بسببها في أوروبا باسم «الشارح الأكبر».تولى ابن رشد منصب القضاء في إشبيلية لمدة سنتين، ثم عاد إلى قرطبة، وتابع شروحه لأرسطو، ثم دعاه أبو يعقوب ليكون طبيبه الخاص، ثم ولاه وظيفة القضاء في قرطبة، ولما مات أبو يعقوب وخلفه أبو يوسف ابنه، الملقب بالمنصور زادت مكانة ابن رشد في دولة الموحدين، ومع ذلك كان يخشى من طبقة الفقهاء الذين كانوا يريدون استعادة مكانتهم، وبالفعل نجحوا في الكيد له لدى الأمير، الذي عاد منتصراً من حربه مع «ألفونس» ملك الإسبان سنة 591 هجرية، وأمر باعتقال ابن رشد ونفيه إلى قرية خاصة باليهود، وأحرق كتبه، وأصدر منشوراً ينهى المسلمين فيه عن قراءة كتب الفلسفة أو التفكير، وهدد من يخالف أمره بالعقوبة الصارمة.اختلفت آراء المؤرخين في تفسير تلك المحنة التي نزلت بابن رشد في أواخر حياته السياسية والعلمية، فأرجعها بعضهم إلى تبسطه مع الأمير في الحديث، وبعضهم ميله إلى حاكم قرطبة وكان أخاً للمنصور، وقال آخرون، إن أعداءه دسوا عليه بعض عبارات تشهد بإلحاده.وفي مقالة عن ابن رشد يؤكد د. محمود قاسم أن السبب السياسي هو السبب الحقيقي؛ إذ كان الفقهاء يريدون استرداد مكانتهم السياسية التي حرموا منها، لكن هذه المحنة ألقت ظلاً كثيفاً على سيرة ابن رشد، فصورته في صورة المفكر المتحرر، بل المارق، مع أن منهجه في التدليل على عقائد الإسلام ربما كان أفضل المناهج؛ لأنه استطاع أن يجمع فيه بين العقل والشرع على أفضل وجه.حاول ابن رشد التوفيق بين العقل والدين، فأصدر كتابه «مناهج الأدلة في عقائد أهل الملة» وقد أراد فيه أن يبرهن برهنة تفصيلية على فساد مناهج علماء الكلام، وأن يبين كيف تصدع الصرح، وتشتت الفكر، وتفرقت الأمة، بسبب جدل علماء الكلام وانصرافهم إلى تكفير بعضهم بعضاً، وإلى تقليد شيوخهم وتعطيل عقولهم، فانصرفت كل فرقة منهم إلى اللجج والتظاهر بالمعرفة، ولو كان ذلك على حساب التفكير السليم والشريعة الحقة.يبين ابن رشد أيضاً أن المشكلات التي فرقت بين الأشعرية والمعتزلة مشكلات مزعومة، بل هي مشكلات لفظية، وأن المسائل لو عولجت بطريقة علمية منطقية بعيدة عن روح التعصب لما وجد هؤلاء ما يوجب الخلاف بينهم، أو ما يدعو إلى التراشق بالكفر، وقد اتفق ابن رشد مع الغزالي في موقفهما من علم الكلام وعلمائه، فقد أخذ كل منهما عليهم أنهم أهل جدل، وكل فريق منهم يكفر من يخالفه في الرأي، ثم تجاوزوا هذا الحد إلى تكفير عوام المسلمين، إذا لم يؤمنوا بمنهجهم في البرهنة على العقائد الإسلامية.
مشاركة :