ارتبط انتشار الإسلام في البلقان بالدولة العثمانية صعوداً وهبوطاً خلال 500 سنة من وجودها الذي انتهى تدريجياً حتى 1912، باستثناء جيب صغير حول اسطنبول عرف صعوده بروزاً لعلماء اشتهروا في العالم الإسلامي وساهموا في التأليف والاجتهاد في علوم الدين والدنيا، ثم عايش في تراجعه أمام التحديات الوجودية (التهجير والتهميش... إلخ) الانكفاء نحو الحيز الأضيق الذي تُرك له بعد 1912. ويكفي أن نرى في «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون» لحاجي خليفة كم من العلماء حملوا لقب «الاسكوبي» (نسبة إلى اسكوب أو سكوبيه عاصمة جمهورية مقدونيا الحالية) في مختلف العلوم واشتهروا في العالم الإسلامي، ثم ماذا حل بالعلماء والمسلمين في هذه الدولة بعد 1912. في تلك القرون «الذهبية» التي أصبحت فيها مدينة اسكوب أو سكوبيه من مراكز الثقافة الإسلامية في البلقان، مثلها مثل بلغراد وسراييفو وغيرها، كان الاسلام في البلقان يمثل كتلة متميزة تجمع بين «الإسلام العثماني» والعرف المحلي باعتبار أن غالبية المسلمين من الأوروبيين الذين كانوا ينحدرون من حضارات عريقة. ومن هنا ليس بالصدفة أن يظهر وقف النقود في البلقان الذي اعتبر «ثورة في الفقه المتعلق بالوقف»، في القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي قبل أن يقرّه شيوخ الإسلام في اسطنبول (أبو السعود العمادي وغيره). ولكن بعد «حرب البلقان» في 1912-1913 التي كانت كارثة للمسلمين في البلقان، تعرض المسلمون في مقدونيا إلى تهجير وتهميش خلال عقود عدة، وبالتحديد حتى استقلال «جمهورية مقدونيا» في 1991. فخلال حرب البلقان 1912-1913 والحرب العالمية الأولى 1914-1918 كانوا ضحية القوى التي سيطرت على المنطقة، على حين أنه بعد تأسيس مملكة يوغوسلافيا (1918-1941) كانوا ضحية الهيمنة الصربية بعد أن أطلقت بلغراد على هذه المنطقة اسم «صربيا الجنوبية» وعملت على تصريب السلاف وتهجير المسلمين وهدم أهم منشآتهم التاريخية ( مثل جامع بورمالي الذي بني في 1495 وهدم في 1925 ) بحجة «التحديث العمراني»، ثم جاء الاحتلال البلغاري خلال 1941-1944 ليكمل ذلك المسار. وتوج هذا المنحى مع وصول الحزب الشيوعي الى الحكم في 1945 مع ابتداع حدود لـ «جمهورية مقدونيا الشعبية» باعتبارها «دولة قومية للشعب المقدوني»، اذ تُرك للقيادة الشيوعية أن تحقق ذلك على الأرض مع الاستمرار في تهجير المسلمين إلى تركيا ليتحولوا من أكثر من نصف السكان إلى أقلية مهمشة ترضى بما تسمح لها السلطة: نشر كتب «علم الحال» (مبادئ العقيدة الاسلامية) مع شكر السلطة على «التسامح» مع الأديان بحسب الدستور اليوغوسلافي . كان هذا هو الوضع حين انهارت يوغوسلافيا في 1991 نتيجة لانهيار احتكار الحزب الشيوعي للسلطة، واستقلت «جمهورية مقدونيا» في 1991 كجمهورية ديموقراطية. ولكن من يقارن الآن وضع المسلمين في هذه الجمهورية بما كانوا عليه في 1991 لا يصدق التحولات الكبرى التي طرأت على المسلمين وأعادت اليهم الحضور الكمي (حوالى 50 في المئة من السكان) والحضور النوعي المتمثل في المشاركة في الحكم والمؤسسات التعليمية والثقافية (كلية الدراسات الاسلامية ودور النشر والمجلات... إلخ) التي بنتها وأضحت تمثل بنية تحتية تعد بما هو أكثر. فنظراً الى أن غالبية المسلمين من الألبانيين فقد كان من المحال تخيّل وجود وزير مسلم بينما الآن لدينا وزراء عدة، ولا يمكن أن تتشكل حكومة الآن من دون وزراء مسلمين. وليس من المبالغة القول إن هذه التحولات لا يمكن تصورها من دون رأس المؤسسة الاسلامية التي تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى أمورهم الدينية والثقافية، الشيخ سليمان رجبي الذي صدرت قبل أيام الأعمال المختارة له في ستة مجلدات تحت عنوان «في سبيل الدين والوطن»، والتي تعكس في ذاتها هذه النقلة الكبرى للمسلمين من جماعة مهمشة في المجتمع والدولة إلى جماعة فاعلة هنا وهناك. وكان الشيخ رجبي ولد في 1947 في قرية في مقدونيا الغربية ذات الغالبية المسلمة حيث أتم تعليمه الابتدائي والاعدادي ثم التحق بالمدرسة الثانوية الاسلامية «علاء الدين» في بريشتينا المجاورة، وبعدها التحق بجامعة الكويت ليتخرج عام 1974 في كلية الشريعة والقانون. بعد عودته عمل إماماً لجامع يحيى باشا المعروف في العاصمة سكوبيه ومفتياً إلى أن انتخب عام 1991 رئيسا للمؤسسة الإسلامية التي تمثل المسلمين أمام الدولة، أي في العام نفسه الذي استقلت فيه هذه الدولة عن يوغوسلافيا السابقة وتحولت دولة ديموقراطية. ولكن هذا التحول من عقلية الجماعة التي كانت «تملك» الدولة وتتصرف كما تشاء مع المسلمين إلى ثقافة المواطنة والمشاركة والمساواة لم يكن سهلاً بل كاد يؤدي إلى حرب أهلية في 2001 لولا تدخل الاتحاد الأوروبي. في هذا السياق تعكس المجلدات الستة التي تحتوى المحاضرات في المؤتمرات المحلية والدولية والمقالات الفكرية واللقاءات مع الصحافة، الفكر الديني والفكر السياسي للشيخ رجبي في توليفة خاصة. أما الفكر الديني فتتمثل أسسه في الحفاظ على التجربة التاريخية للمسلمين في مقدونيا التي تقارب الستة قرون، وإبراز ما فيها من جوانب تمثل الاجتهاد والمساهمة الذاتية للمسلمين هناك في إطار التيار العام للإسلام الذي ساد خلال قرون الدولة العثمانية. وبعبارة أخرى، دافع الشيخ رجبي ويدافع عما يسمى «الإسلام التقليدي» الذي يقصد به هنا الإسلام الذي وجد فيه الألبان أنفسهم وعبّروا فيه عن خصوصيتهم وتعدديتهم الثقافية، وهو بذلك يعارض الجمعيات الدينية الممولة من الخارج التي انهالت على البلقان بعد انهيار أنظمة الحكم الشيوعية لـ «تعيد» المسلمين هناك إلى «الإسلام الصحيح» الذي لا ينسجم مع التجربة التاريخية للمسلمين هناك. وهذا لا يعني انغلاق الشيخ رجبي والمؤسسة التي يرأسها، وهي الوحيدة التي تمثل المسلمين دستورياً أمام الدولة، عن واقع الإسلام في العالم بل أن الشيخ رجبي أمّن مئات البعثات للشباب للدراسة في مختلف جامعات العالم الاسلامي من المغرب إلى الكويت، وعاد هؤلاء بعد الاستفادة من تجارب المسلمين في العالم ليساهموا أكثر في بناء الشخصية الذاتية للمسلمين في مقدونيا. ومن أسس الفكر الديني عند الشيخ رجبي إيمانه بالعلم الذي حُرم منه المسلمون هناك طيلة عقود، فأعاد إحياء «مدرسة عيسى بك» التي كانت مشهورة في البلقان خلال الحكم العثماني، وأصبح لها فروع عدة للذكور والاناث، كما افتتح كلية الدراسات الاسلامية التي اعتمدت برامج البكالوريوس والماجستير فيها بحسب المعايير الأكاديمية الصارمة للأجهزة المختصة في الدولة، ما يفتح الأبواب للخريجين في مجالات شتى في المجتمع والدولة. أما في ما يتعلق بالفكر السياسي للشيخ رجبي فقد عرفت عنه مواقفه الشجاعة في رفض استمرار «احتكار» الدولة من الجهات التي هجّرت وهمّشت المسلمين خلال عقود وحولتهم إلى أقلية تشعر بالدونية وتقبل بالفتات. وبعبارة أخرى دعا الشيخ رجبي منذ توليه لرئاسة المؤسسة التي تمثل المسلمين أمام الدولة في 1991، الذي تزامن مع استقلال «جمهورية مكدونيا»، إلى دولة المواطنة والديموقراطية والتعددية الثقافية والدينية وإلى تسلّم المسلمين مسؤولياتهم باعتبار «شركاء» مع الأطراف الأخرى في إدارة أمور الدولة (بعد أن أصبحوا يمثلون حوالى 50 في المئة من السكان) وليسوا مجرد «أجراء» لخدمة الآخرين. وبفضل هذا التوجه الذي كان ينطلق من القبول بالآخر المختلف مع الحرص على الحقوق المتساوية، أصبح الآن المسلمون طرفاً فاعلاً في المجتمع والدولة، لأنه مع الانتخابات الأخيرة التي جرت قبل شهور وصل أول مسلم (طلعت جعفري) في تاريخ هذه الدولة (1945-2017) إلى منصب رئيس البرلمان، ولم يــعد في الإمكان تشكيل حكومـة من دون مــشاركة فاعلة للمسلمين. ونظرا الى أن غالبية المسلمين (حوالى 90 في المئة) في «جمهورية مقدونيا» من الألبانيين، الذين يتميزون بالحفاظ على شخصيتهم القومية مع اعتزازهم بالتعددية الدينية المستمرة لديهم نتيجة للتسامح الذي يضرب به المثل، فإن الشيخ رجبي في فكره السياسي لا يخفي أنه ألباني وأنه يعمل لأجل رفع الضيم الذي استمر عقوداً على الألبان في هذه الدولة ليؤكد بذلك مقولة «الإسلام التقليدي» الذي ترسخ عند الألبان خلال قرون ويقوم على الجمع بين الانتماءين الديني والقومي في آن، وهو ما يتمثل في العنوان الجامع للمجلدات الستة «في سبيل الدين والوطن». ويبدو كل ذلك في ما لو قرأنا فقط عناوين المجلد الأول من المجلدات الستة، حيث نجد مثلا «الاسلام أم الديموقراطية» و «في خدمة مصالح كل الشعب» و «عملنا لأجل الاسلام في الوقت الذي كان يكلّف ذلك المرء رأسه» و «التعدد الديني الألباني يجب الحفاظ عليه» و «مسلمو مقدونيا لن يعودوا إلى الوراء» و «البلقان برميل بارود» و «أنا أنتمي الى الاسلام دينا وإلى الألبان قومياً»... الخ. وأخيراً، فإن هذه المجلدات بما فيها من مقالات فكرية ومحاضرات ومقابلات وسجالات أحياناً مع «الممانعين» لهذا البروز للمسلمين تقدم لنا خلفية فكرية وتاريخية عن تلك الكتلة المهمة من المسلمين في أوروبا (البلقان) التي تختلف كلياً عن المسلمين الآخرين في أوروبا الوسطى (النمسا وألمانيا) وأوروبا الغربية (فرنسا وايطاليا وبريطانيا... الخ) في أمرين اثنين : مزاوجة المسلمين فيها بين الانتماء الى أوروبا باعتبارهم أوروبيين أولاً والانتماء الى عالم المسلمين، وتجربتها التاريخية الممتدة حوالى ستة قرون التي أثمرت خصوصيتها على الأرض فقهاً وثقافة وحضارة.
مشاركة :