يعالج أحمد زايد في كتابه الجديد «صوت الإمام... الخطاب الديني من السياق إلى التلقي»، قضية تجديد الخطاب الديني من منظور سوسيولوجي، محاولاً أن يجيب عن تساؤلات مهمة، كيف يتشكل السياق المنتج للخطاب الديني، وكيف تتشكل النخب الدينية، وما دورها في صناعة الإطار الديني الأكثر هيمنة؟ ولماذا يرتبط الخطاب الديني بالآخرة أكثر من ارتباطه بالدنيا، وكيف يتم تلقي الخطاب الديني من قبل الجمهور؟ أسئلة كثيرة وعميقة حاول الكتاب أن يجيب عنها. في البداية يرى زايد أن الخطاب الديني لا ينفصل عن سياق خلقه، ولكن ليس معنى ذلك أن السياق ينتج الخطاب ميكانيكياً، كما أن الخطاب لا ينفصل عن الذات التي أنتجته، ولا الذات التي تنقله ولا الذات التي تتلقاه، ولذا فالخطاب الديني متعدد ومعقد عبر الزمن، فالخطاب الديني هو جزء من نظام الهيمنة والضبط والرقابة، ولذلك فهو قد لا ينشغل بقضية التنمية والتقدم قدر إنشغاله بتثبيت الوضع القائم. ويبرز في دراسته أن النخب الدينية القائمة على الخطاب الديني تتسم بالتعدد، وأنها توظف ثقافة الإستهلاك، مثل توظيف القنوات والأشرطة ووسائل التواصل الإجتماعي، وتوظيف كل الأوعية الاتصالية، كما اندمجت النخب الدينية داخل ثقافة الاستهلاك فتحولت إلى نجوم إعلامية، وصارت النخب الدينية الأكثر سيطرة على عملية الإنتاج الثقافي فخطابها هو الأكثر تأثيراً، وهذه النخب هي جزء من الطبقة الوسطى، وأصبح للدعاة طلة جسدية كجزء من الرأسمال الثقافي والرمزي لهذه الطبقة. سعت تلك النخب إلى بناء حقل ديني لنفسها هو الحقل المهيمن الذي تدور في فلكه كل الحقول، ولا يمكن تجاهله بحيث يصير الحقل الديني حقل ضبط ومراقبة وتحكم، وهنا لعب رجال الدين دوراً بارزاً في تبرير السلطة السياسية والدفاع عنها. ولا يميل الإطار الديني المسيطر لأن يكون أكثر تنوعاً، وأكثر تكيفاً مع مستجدات العصر، وأكثر قبولاً للآخر، بل يميل أن يكون أكثر تشدداً وأكثر ميلاً إلى الاستبعاد، ويوسع دائرة التحريم والفتوى. وذلك من أجل توسيع دائرة التحكم والسيطرة. وقد صارت الفتوى هي أداة المراقبة، والتي يستعين بها الحقل الديني في تسييج ذاته، واكتساب حصانة عبر الزمن. ولكن فوضى الفتوى تؤدي إلى حالة من الشلل الاجتماعي، أو حالة من التوقف وعدم القدرة على المبادأة، وخوف من الفعل. ويرى زايد أن الدين يلعب دوراً محورياً في تشكيل الهوية من خلال حضور الدين في الحياة العامة، والخاصة، فلم تنزع التغيرات الحديثة الدين من الحياة، ولم ترفعه من المجال العام وتنزله إلى المجال الشخصي، بل ظل حاضراً في كل المستويات في الحياة السياسية، وفي الخطاب السياسي، ولم يبعد الدين حتى عن المشاركة في الحكم، وفي تسيير أمور المجتمع، ولذلك أصبح الدين أحد المقومات الأساسية في تشكيل هوية المجتمع. وعمد من خلال فصلين في كتابه - الخامس والسادس - إلى تحليل الخطاب الديني فرأى أن الخطاب الديني السائد له توجه أخروي وماضوي، وأن نسبة 77 في المئة من الخطب الدينية لها توجه أخروي حيث تنصب على قضايا العلاقة مع الله، والدار الآخرة، والعبادات الأحكام والفتاوى، والقرآن والنبي (صلى الله عليه وسلم) وصفاته، في حين أن التوجه الدنيوي لتلك الخطب لا يتجاوز 23 في المئة، حيث تشمل مواضيوع دينية وسياسية واجتماعية، مثل الحقوق 23 في المئة، والعلاقة بالنفس والآخرين، والقيم والمثل العليا 47 في المئة، وقضايا علمية عامة، والاتجاه نحو المستقبل هو الاتجاه الغائب في الخطاب الديني، لأن تخلف الحاضر يرجع إلى أن الأمة انحرفت في عقيدتها وفي تعبدها وفي أخلاقها. ولاحظ على الخطاب الديني مجموعة من النقاط أهمها النخبوية ومجافاة التلقي: فيبدو الخطاب كأنه هابط من أعلى في شكل دائم أو من يمتلكه كأنهم نخبة مختارة، ولذلك فإن الثقل النخبوي في الخطاب يجعله خطاباً صادراً من كهنوت مستحدث في عالم التدين المعاصر، وأعني بذلك وجود فئة ممن يطلقون عليهم الدعاة أو رجال الدين ينصبون أنفسهم سدنة للمعرفة بالدين، وخباياه الغامضة التي لا يستطيع أحد أن يفك رموزها. ويسيطر على الخطاب الديني جدل الاستحواذ والاستبعاد، حيث يشير الإمام دائماً إلى الثوابت الدينية، وهي القرآن والسنّة، وما طرح حولهما من إجماع الصحابة، وإجماع السلف، وفي المقابل يؤكد الإمام حرمة البدع، ويهيل التراب في وجه المخالفين والضالين، فمن يخرج عن الثوابت فهو خارج عن الملّة، ويتم النظر إلى العالم الذي ينتج الخطاب على أنه العالم الأنقى والأقرب للإيمان في مقابل العالم الذي يلقى عليه الخطاب، وهو عالم يميل إلى الابتعاد عن الدين. ولذا يميل الخطاب إلى اضفاء طابع القداسة على ذاته، فيكرس ابتعاده عن الدنيوي الذي أصابه الدنس. ويدين زايد الخطاب الديني الحالي بما يكرسه من تأسيس الخوف، حيث نجد الخطاب يزخر بعبارات الزجر والتحريم من ناحية، والحديث عن عذاب القبر وظلمته من ناحية ثانية، ومحاولة تصوير أحوال العباد على أنها سيئة، وأن البشر عليهم أن يبذلوا جهداً ايمانياً كبيراً لكي يصلوا إلى حالة من الإطمئنان من ناحية ثالثة، وكل ذلك يعمل لأن يصبح الخوف لصيقاً بقلب المؤمن وعقله. ويرى أن الخطاب الديني يقيم علاقة متوترة مع الآخر، حيث يقوم بنقد حال المسلمين، ونقد عقل الغرب وانجازاته، فحاضر المسلمين يبعث على الأسى والحزن، ويكشف عن نزوع نحو الغفلة والجاهلية، ومن ناحية أخرى فإن الآخر المتمثل في الحضارة الغربية لا يعبر إلا عن انجازات فارغة وأفكار متهافته وعقل ضال. ويرى زايد أن الخطاب الديني يمكن أن يبث رسائل تحث الأفراد والجماعات على تحقيق نهوض اجتماعي واقتصادي، وهي قيم العمل والقيم السياسية كالعدالة والحرية والانتماء والمشاركة والمواطنة، وقيم اجتماعية كقيم الاحترام وحسن التعامل ويليها التكامل، والحب والصداقة والتسامح، ثم القيم الشخصية مثل محاسبة النفس، وحسن الخلق، والتفاؤل والأمل، والصدق والأمانة. ويصل من خلال تحليله القيم السابقة إلى أن الحديث عن قيم التقدم والتنمية في الخطاب الديني هو حديث قليل ولا نقول ضعيف، وهو يختلط بالخطاب الديني الخالص، اذاً فإن عملية اشتقاق القيم من الخطاب الديني هي عملية صعبة، وتأتي مرتبطة بالنزعة الدينية والأخروية والماضوية. لأن الخطاب لا يشكل الحاضر فيه أهمية كبيرة إلا بقدر علاقته بالماضي. وفي نهاية كتابه يشخص زايد الحالة الراهنة للخطاب الديني والآفاق المستقبلية له، فيرى أن محنة الخطاب الديني أنه يتشكل في إطار سياق خاص يتداخل فيه الديني بالسياسي، بما يوجه الديني لخدمة مصالح السياسي وهذا يشي باستقلالية الديني عن السياسي والثقافي، كما أن الخطاب الديني يتشكل في فلك إطار فهم معين للدين، ويبدو هذا الإطار المسيطر والمستمر عبر الزمن، ويعمل على استبعاد أي أطر أخرى. على رغم نفي البعض بأنه لا كهنوت في الإسلام فإن زايد يرى أن انتاج الخطاب يتم من خلال نخبة دعوية تحافظ على هيبتها بالاستمداد بأن الدعوة لها ولرجالها، والتمكن من اللغة والحفظ، وتجهيل المتلقي، كما يعمل الخطاب الديني على نوع من الترفع والوصاية من جانب النخب الدينية وهي تتربع على عرشها، وهو ما يكسبها سلطة وقدسية، وبهذه الطريقة تتحول عملية حراسة الإطار المسيطر إلى صناعة نوع من الكهنوت الديني، كما يعمل التعليم الديني على دعم الإطار السائد وعلى تمدده أفقياً عبر المنصات الخطابية المنتشرة في النوادي والمساجد وأماكن العمل. ويدعو إلى ضرورة وجود أسس عامة لتجديد الخطاب الديني، وهي تفكيك التاريخ الإسلامي حتى نكشف عن جذور الإطار المسيطر في فهم الدين، وكذلك تفكيك النصوص الخطابية لبيان مدى تحيزاتها السياسية والاجتماعية، والكشف عن ميلها الأصولي المتطرف، ومن المهم تفكيك وظيفة الدين ونطاق تأثيره في الحياة، أي ضرورة تطوير الخطاب الديني على إطار من الفهم المحدد لدور الدين في الحياة من حيث علاقته بالدولة، وذلك من خلال تحديد علاقة الدين بمدنية الدولة، وذلك لأن طريقة تداول الدين في الحياة العامة وفي الحياة اليومية تدل على أنه لا يستقل على نحو كامل، وكذلك تحديد علاقة الدين بالمجال العام، ذلك لأن علاقة الدين بالمجال الخاص أقرب، ومع ذلك فالدين له حضوره الطاغي في المجال العام، ولذا يدعو زايد إلى أن يكون تدخل الدين في المجال العام تدخلاً رشيداً عقلانياً لا اختزالياً ولا استبعادياً. ويعتقد زايد أن الأسس العامة لتجديد الخطاب الديني لا بد من أن تنبع من تجديد العقل والثقافة لأنه إذا كان ثمة ضرورة لدمج الخطاب الديني في قضية التنمية والتقدم، فإن قضية التنمية والتقدم نفسها تحتاج إلى تجديد أو تحديث شامل للخطاب الثقافي والقيمي وتجديد العقل والثقافة يكون عبر 1- المجال التعليمي: في تطوير المناهج بعيداً من التعصب وضرورة العقلانية. 2- المجال الإعلامي: الحد من القنوات التي تحض على التطرف، وعدم استخدام الدين لتحقيق أرباح، وإخراج الدين من عالم الاستهلاك، وعالم التجارة.3 - المجال الثقافي العام: ضرورة الاهتمام بالفنون والآداب ونشرها على نطاق واسع، وتنمية الوعي الجمالي. ويرى أن ثمة سياسات لتجديد الخطاب الديني وأهمها: 1- تطوير المحتوى: تطوير الرسائل الكامنة في الخطاب، إذ يتجه الخطاب إلى دفع عجلة التنمية، وتخليق طاقة للعمل ولاتخاذ قيم العمل والمواطنة والمشاركة السياسية، ونشر خطب منبرية تعالج قضايا الحياة ونشر كتب عن التنمية والتقدم يوزع في المساجد. 2- تكوين الدعاة: ضرورة تطوير الدعاة لجعلهم أكثر انفتاحاً في رؤية دور الدين في الحياة، أي دوره في تحقيق التقدم وبناء الحضارة، وعقد دورات تدريبية لهم 3- ضرورة توحيد الرؤية، وتحييد المؤثرات الأخرى على المتلقين، وتحييد ثقافة البطالة، وتحييد تأثير المدرسين السلبي، ووسائل الإعلام والفضائيات. 4- دور المؤسسات ذات الصلة: تطوير دور وزارة الأوقاف، والأزهر، ودار الإفتاء، والكنيسة في تجديد الخطاب الديني من خلال تأكيد مبدأ حرية المؤمن في اختيار عقيدته، وتأكيد بشرية رجال الدين وبشرية خطابهم، وتوجيه الفتوى في التعامل مع الأمور المستمدة من روح العصر. 5- الحد من استخدام وسائل الاتصال الحديثة في المساجد من طريق الاكتفاء بها داخل المساجد، وذلك احتراماً للشعائر المقدسة.
مشاركة :