أليس من مسؤولية الحكومة ومجلس الأمة إجراء مراجعة سريعة للنصوص المانعة من التقاضي، أو التي تحد هذا الحق أو تفرض قيوداً عليه، وتلك التي تحول دون أن ينال المتهم محاكمة منصفة عادلة، بدلاً من بقاء هذه النصوص معرضة للطعون بعدم دستوريتها، وتحميل المواطنين مشقة تلك الطعون وعدم استقرار المراكز القانونية؟ تحية إلى المحكمة الدستورية كان معي في رحلتي السنوية إلى أوروبا، من بين الأوراق التي اصطحبتها معي، بالمخالفة لتعليمات الطبيب بالراحة التامة في رحلة هذا العام التي كانت مخصصة للعلاج والاستشفاء، بعض أحكام المحكمة الدستورية الكويتية التي تكتمل بها منظومتها القضائية في صون مقومات المجتمع من عدل وحرية ومساواة، وهي الأحكام الصادرة بعدم دستورية بعض النصوص التشريعية المانعة من التقاضي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الحكم الصادر بعدم دستورية المادة (8) من القانون رقم 51 لسنة 2010 بإنشاء صندوق لمعالجة أوضاع المواطنين المتعثرين في سداد القروض الاستهلاكية والمقسطة تجاه البنوك وشركات الاستثمار، وذلك فيما تضمنه من عدم جواز الالتجاء إلى القضاء في الطعن على القرارات الصادرة من اللجان التي شكلها القانون، لتسوية تلك الديون والتي نص القانون على اعتبارها قرارات نهائية. ومنها الحكم الذي أصدرته المحكمة بعدم دستورية ما تضمنته الفقرة الثالثة من المادة (9) من القانون رقم 24 لسنة 1962 في شأن الأندية وجمعيات النفع العام، فيما تضمنته من النص على حظر الطعن في القرار الصادر برفض تسجيل هذه الأندية والجمعيات أو التظلم منها بأي طريق من طرق الطعن أمام القضاء. ومنها الحكم الصادر من المحكمة بعدم دستورية ما تضمنته المادة 200 مكرر من قانون الإجراءات والمحاكمات الجزائية من قصر الحق في الطعن أمام محكمة التمييز في الأحكام الصادرة من محكمة الجنح المستأنفة على الأحكام الصادرة بعقوبة الحبس، وعدم إتاحة الطعن في الأحكام الصادرة بعقوبة الغرامة، على الرغم من أن الآثار المدنية المترتبة على الحكم الصادر بعقوبة الغرامة هي ذات الآثار المدنية المترتبة على عقوبة الحبس، وفي بعض الأحوال قد يكون أشد وطأة، وأوخم عاقبة مما يرتبه الحكم بالحبس، وهو ما يناقض حق التقاضي، ويخل بالضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع، ويتعارض مع مبدأ المساواة بالمخالفة للمادتين (29) و(34) من الدستور. مسؤولية الحكومة ومجلس الأمة استعرضت هذه الأحكام، والتي أوجه بمناسبتها وفي سياقها تحية إلى المحكمة الدستورية الكويتية التي أصبحت جزءاً من ضمير ووعي الشعب الكويتي، لأطرح سؤالاً مشروعاً: ما هي الخطوة التالية؟ أليس من مسؤولية الحكومة ومجلس الأمة إجراء مراجعة سريعة للنصوص المانعة من التقاضي، أو التي تحد هذا الحق أو تفرض قيوداً عليه، وتلك التي تحول دون أن ينال المتهم محاكمة منصفة عادلة، بدلاً من بقاء هذه النصوص معرضة للطعون بعدم دستوريتها، وتحميل المواطنين مشقة تلك الطعون وعدم استقرار المراكز القانونية؟ ولأن هذه المراجعة السريعة للأحكام، كما أتوقع، سوف تستغرق وقتاً طويلاً، من خلال دهاليز تشكيل اللجان وتشكيل سكرتارية فنية لها وتنظيم عملها، والبدء في تجميع القوانين وتصنيفها أقترح على كل من الحكومة والمجلس إصدار قانون ينص على أن تلغى جميع النصوص المانعة من حق التقاضي، مثلما فعل القانون رقم 5 لسنة 1995 بشأن إلغاء النصوص المانعة من رقابة ديوان المحاسبة. العدل أسمى الغايات ورقابة ديوان المحاسبة لا ترقى إلى مرتبة العدل ورسالته السامية التي كلف الله بها الأنبياء والرسل، ومن بعدهم القضاة، أليس القضاء هو الأمين على الأرواح والأنفس والحريات؟ أليس هو الحارس للشرف والعرض والمال؟ أليس من حق الناس أن يطمئنوا إلى أن كل ما هو عزيز عليهم يجد في كفالة القضاء أمنع حمى وأعز ملجأ؟ أوليس من حق الضعيف إذا ناله ضيم أو لحق به ظلم أن يطمئن إلى أنه أمام القضاء قوي بحقه، عزيز بنفسه مهما كان خصمه قوياً بماله أو جاهه أو سلطانه؟ أوليس من الحق أن يتساوى أمام قدس القضاء، الحاكم والمحكوم، وأن ترعى حمى الجميع عين العدالة؟ نقلت هذه الكلمات الرصينة الرائعة من المذكرة الإيضاحية لأول قانون لاستقلال القضاء صدر في مصر عام 1943. وغني عن البيان أن كل ما نصت عليه ديباجة الدستور من حقوق وحريات، وكل ما نص عليه الدستور من مقومات المجتمع ودعائمه يصبح حرثاً في البحر وتنكباً لأمل الأمة وأحلامها وطموحاتها في مستقبل أفضل وتنمية مستدامة، إذا لم يكن هناك قضاء دستوري يكفل الدستور استقلاله وحمايته ليذود عنها ويحميها بالرقابة على دستورية القوانين وقضاء إداري يحمي الشرعية ومبدأ المشروعية والدولة القانونية، ومحاكم ترد للناس حقوقهم، وتحمي حرياتهم وتصون حرماتهم من أي عدوان عليها. فالقضاء بأجنحته الثلاثة، القضاء الدستوري والقضاء الإداري والقضاء العادي هو الحصن الحصين للحقوق والملاذ الأمين للحريات والدستور وحدة واحدة يكمل بعضه بعضا، ولا يجوز النظر إلى هذه المقومات وهذه المبادئ والحقوق وكأنها هائمة. العدل جوهر الإسلام والعدل هو جوهر الإسلام، ومن صفات الإمام العادل ما وصفته به رسالة الحسن البصري إلى أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه صلاح كل فاسد، وقوة كل ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف كالأب الحفي على أولاده، والأم الشفيقة البرة الرحيمة بأولادها، كالقلب بين الجوانح، بصلاحه تصلح الأمور وتفسد بفساده. وأعود إلى اقتراحي بإصدار قانون بإلغاء جميع النصوص الواردة في أي قانون والمانعة من حق التقاضي، لأوجه رسالة إلى الحكومة بأن ذلك لا يمنع من تشكيل لجنة أو أكثر في وزارة العدل لتنقية القوانين الأخرى من القيود المفروضة على حق التقاضي، سواء كانت قيوداً شكلية إجرائية أو قيوداً مالية، فالعدل لا يجوز أن يكون سلعة باهظة بعيدة المنال على المواطن أو المقيم. وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
مشاركة :