الشاب العربي لا يعرف الحُبّ لأن الغريزة الجنسية ملتهبة. وإذا لا يوجد نظام قيم مشابه لقيم الحرية والقانون الغربي فإن الكبت سيكون سيد الموقف.العرب أسعد البصري [نُشر في 2017/07/23، العدد: 10700، ص(6)]ضائع بين هويتين في المطار ينتابني إحساس غريب كما لو كان بإمكاني الفرار. ذاهب إلى تورونتو المدينة التي أزهر فيها قلبي. لا يمكن مقاومة جاذبية تورونتو. السهولة في العشق والحفلات حتى الصباح. الطبيعة البشرية الطموحة. فيها أجمل وأشرس المغامرات. صحيح لا توجد طبيعة مثل مدينة فانكوفر السياحية. غير أن فانكوفر تبقى مدينة مسنّين تنام باكرا. تورونتو تضخّمت بشكل غريب أصبحت تشبه نيويورك تماما. لم تكن هكذا قبل عشر سنوات. السكك الحديدية صارت تصل إلى المطار. أصبحت بكثافة لندن غير أن لندن فيها هندسة عبقرية بحيث تحتفظ بجمالها الإنساني. المدن العملاقة في شمال أميركا حين تتضخم تُصبح متوحّشة. نمت وأفقت منتصف الليل. أحبّ المشي في الشوارع الهادئة بعيدا عن صخب العمل والصراع الموجع في سبيل البقاء. مهاجرون بالملايين يعيشون على هامش هذه المدن. في مدينة عظيمة كتورونتو ترى الأبيض أيضا مسحوقا. الصراع يكون بلا رحمة ويسحق جميع الألوان. جلست في المقهى قرب سائق تاكسي سوداني فحدّثني بسرعة ودون مناسبة عن حياته. الضغط النفسي يولّد رغبة بالكلام خصوصا حين تلتقي بشخص مولع بحكايات الناس. حكاية السوداني تشبه حكاية كلّ مهاجر. الرجل في منتصف العمر ويعمل سائق تاكسي منذ عشرين سنة. يعرف المدينة كراحة كفه، وهذا بالنسبة إليّ أعجوبة تشبه أعجوبة سائق التاكسي في لندن الذي يعرفها رغم ضخامتها كبيته الصغير. جلب السوداني زوجته الممرضة من السودان وشجّعها على التعليم. وبعد أربع سنوات صارت ممرضة في مستشفى كندي. في كندا الممرض ليس كما في العراق، بل يمتلك معرفة ومكانة تشبه مكانة الطبيب تماما. مع السنوات حدثت مشكلة بين السوداني وزوجته، هو سائق تاكسي بائس وهي ممرضة محترمة في المجتمع. لم يعد رجلا شرقيا يفرض شروطه وقراراته كالسابق. طلّقها وهرب تاركا بنتا وولدا. بعد عشر سنوات تزوّج سيدة سودانية جديدة وجاء بها إلى كندا. أنجب منها الآن طفلين لكن لم يرسلها للتعليم خوفا من تكرار التجربة. بدأت تسمن وصار كرشها كبيرا. وهو سعيد بذلك، ويقول إنه سينفخ بطنها مجددا في الخريف القادم ليشغلها بالأطفال عن الاكتئاب والفراغ. هذه حكايات سمعتها ألف مرة من المهاجرين. خصوصا حين يوحي لك أحدهم بأن زوجته السابقة نادمة أو أنه حطمها وانتصر، أو أن أولاده الذين يكرهونه قد كبروا وفهموا أخيرا أنّه على حق. أشياء متعلقة بوهم المهاجر فهو منفصل عن الوجود والمكان والزمان ويعيش مأساة الاغتراب العميق الذي يحتاج فلسفة بحجم فلسفة ماركس ليفهمها.صدمة الهجرة تفضح ثقافتنا كعرب. الشاب العربي لا يعرف الحب إلا في الكهولة بينما الشاب الكندي قضية مختلفة. نظام التربية والتعليم والقانون يجعل الاختلاط متاحا منذ الطفولة يعجبني الرجل الأبيض حين يتحدث عن مأساته الشخصية، فالبيض أيضا يستدرجهم حبّي للإصغاء باحترام، وحين يكونون مخمورين يرقصون ويغنّون، وفِي آخر الحفلة يحدثونني أيضا. جون عازف غيتار فاشل قال لي إنه أحب أن يعزف الغيتار ولكنه أبدا لم ينجح في ذلك. وهذا الفشل جلب عليه أنواعا كثيرة من الفشل، والغريب أن جون المزعج قال لي في النهاية كلمة لا تخرج إلا من فيلسوف وهو أنه رغم فشله حتى بلغ الخمسين يحمد الله على الحرية والسلام في بلاده، وكل مأساته الشخصية هو جلبها على نفسه ولم تجلبها السياسة أو الظلم. عين الشاعر في المدن العملاقة بشمال أميركا تحتاج أن تكون شاعرا لترى ما لا يراه الناس. تكاد تشعر أن هذه المدن الحديثة لا تحسن إخفاء القمامة فقط بل تخفي العذاب البشري أيضا. مدن مليونية عملاقة ولكنك لا ترى أحدا يموت، ولا ترى المجانين في الشارع. من المؤكد أن هناك الآلاف من الناس يموتون يوميا، والآلاف يفقدون عقولهم يوميا، والآلاف من الجرائم والسجناء. كل ذلك تغلِّفه الرأسمالية بعناية وتخفيه ولا تريك سوى حركة السوق والفرح والبضائع. لا توجد مقابر، في المدن الصغيرة كأوتاوا ترى مقابر مفتوحة داخل المدينة، ومع هذا تبقى الكثير من المخلفات البشرية ما زالت تسير في الطرقات المزدحمة وتثرثر. تكاد تراها بوضوح من ملامحها، سترى إنسانا يمشي وكأنه قنينة بيرة فارغة ومتروكة، السواد حول المحجرين وخروج العروق في الوجه، الاصفرار بسبب الوجبات السريعة، الحركات المفاجئة بسبب القلق وقلة النوم. كما قال أوكتافيو باث الرأسمالية تريك الجنس والرياضة وتطرد فكرة الموت نهائيا من المدينة. أحبّ الإصغاء للمهاجرين خصوصا، ومن خلال تجربتي كخبير إصغاء لا أضيع وقتي مع المهاجرين الجدد الذين لم يمض عليهم سوى سنوات قليلة. هؤلاء لم يصلوا حتى الآن ما زالوا في الطريق. يتحدثون عن كندا أخرى موجودة في عقولهم فقط نحن لا نعرفها. إنهم يتحدثون كطفل عمره أربعون عاما. كائنات ما زالت عمياء ومشوّشة. الإصغاء يحلو حقا للمهاجر القديم فعنده حكاية وأوجاع وحكمة.امتدح بلادهم تجاوز صدمة الهجرة المتعلمون من المهاجرين الجدد، خصوصا الشباب، يحبون الإصغاء رغم أنني أقول أشياء قليلة. قبل أسبوع بالمصادفة جلس قرب طاولتنا في محل “شيشة” مجموعة من الشباب العراقيين الجدد. متعلمون مسيحيون وشيعة وسنة، في الغربة الكل عراقي ويتمسكون ببعضهم بسبب الخوف من العالم المجهول حولهم. حسنا قل لنا شيئا نستفيد منه. أقول لكم شيئا واحدا بسيطا. في كندا احذر كيف تقدم نفسك للبيض حتى لو كانوا أصدقاء مقرّبين كما تظن فهم لا يكشفون لك عن مخاوفهم. فقد تكون مريضا وكئيبا وقد تكون قاطعا للرؤوس ومتطرفا. لا يعرفونك ولا يعرفون البلاد الغريبة التي قذفت بك إليهم. فبينما في العراق يعتبر الكلام شخصيا وكل واحد يعبّر عن وجهة نظره. الأمر في كندا مختلف تماما فأنت أمامهم قد تكون عاقلا وقد تكون مجنونا، قد تكون طيّبا وقد تكون مجرما، قد تكون سعيدا وقد تكون كئيبا معديا. حاول أن تتحدث دائما في مواضيع مألوفة، تعلم لعبة الهوكي الشعبية، احفظ أسماء الفرق الكندية، تحدث في الرياضة وإذا استطعت اذهب واحضر المباريات في المدينة معهم، واحفظ الأغاني الكندية والأميركية، على الأقل أشهر المطربين. تحدث عن الموسيقى قدر ما تستطيع أو عبّر عن إعجابك بالموسيقى والأغاني. امتدح حياتهم وبلادهم فقد التقطوك من الخراب وادّع دائما أنك سعيد. أرقص إذا استطعت أو على الأقل ابتسم لهم حين يرقصون، والشيء الآخر تحدث في المال وطموحك بشراء بيت والعمل. العقل في كندا هو سعادة ونقود. طالما تسعى وراء الدولار وتدّعي السعادة أنت بنظرهم شخص عاقل. ادخر الشكوى والأوجاع لأصدقائك العراقيين فقط. هؤلاء يفهمونك ويعذرونك. الشيء المهم إذا عشقتك سيدة بيضاء عاملها بلطف مبالغ فيه، وإذا تركتك يوما عبّر فورا عن احترامك لقرارها واشكرها على الأوقات السعيدة. فأنت لست أبيض لتغار وتتعارك معها وتشتمها وتشتمك. أنت عربي وإذا غضبت منها ستخاف منك، سمعة العربي مع المرأة لا تساعد وقد يضعونك بالسجن لسبب بسيط. لا تُمارس وقاحة الأبيض مع السيدات فهو مثلها أبيض ولن تسيء فهمه. وفِي الحفلات الصاخبة كن قريبا من أصدقائك البيض فإذا حدثت مشكلة يقومون بالحديث نيابة عنك وينقذونك، فالبلاد بلادهم ويعرفون ماذا يقولون. لا تستلف من البيض بل اطلب مساعدتهم في فرص عمل ومشاريع، لأن ثقافتهم مبنية على الادخار ويحتقرون الإفلاس فهو للمدمنين والنصّابين. إذا احتجت استلف من أصدقائك العراقيين فقط فهؤلاء يتفهمون هذه الأشياء. حين انتهيت من كلامي دفعوا الحساب وقالوا على الطريقة العراقية “شكرا لك حسابكم واصل” الشعب العراقي رائع وطيب ويصغي باهتمام. عندهم رغبة بالتعلم. في تورونتو تذكرت صاحبنا أبو راس، وهو مهاجر عبقري حاز على الدكتوراه في الهندسة من أميركا وجاء إلى فانكوفر مع زوجته وولده حسن. دائما كان يقول ولدي حسن أهم مشروع بحياتي. أبو حسن عملاق صوته وقور وسامرائي محترم. قلنا هذا هو الفاهم “راح يدبّرها”. قال صاحبي تعال نطبق قانون الهندسة العكسية الذي اتبعته اليابان مع أميركا. كل ما يفعله أبو حسن نفعل مثله. هو رجل حكيم لماذا نتخبط “وندوّخ نفسنا”. أبو حسن بحث عن عمل بفانكوفر فلم يجد. حمل أمتعته بسيارته ألفان الكبيرة إلى تورونتو. صاحب معمل عراقي هناك عيّنه مديرا. قلنا هذا الرجل محنك. لحقناه إلى تورونتو على أمل أن يجد لنا عملا. أبو حسن كيف حالك؟ هلا بيكم. شلونكم شلون أم حسن؟ أم حسن هربت منذ زمن بعيد تقول تحب عشيقها ولا تحبّني. وحسن؟ يدرس جامعة لا يدفع إيجارا ويأخذ مصروفه منّي. بمجرد التخرج سيهرب مثل أمه ويتركني. والحل؟ لا يوجد حل كما ترون أعيش وحيدا مع الحسرات. قال صاحبي هذا أبو راس العبقري قهرته المدينة ماذا سنفعل نحن؟ ثم قال يا صاحبي لا نفكر ولا نخطط نعيش حياتنا بلا مبالاة ونستمتع قدر استطاعتنا ونتوقع كل شيء لأن هذا العبقري قد فشل كما ترى. بين الواقع والخيال صاحبي هذا بروفيسور هندسة ميكانيك متخرج من كندا وكان دائما يسخر من محبتي للشعر. قبل 15 عاما طبعت ديوان شعر حديث “طلاسم” تشبه طلاسم أدونيس. طبعته لي دار المدى لصاحبها فخري كريم وكالعادة أرسلوا إليّ 200 نسخة. وزعت 20 نسخة وسافرت إلى مدينة أخرى. تركت النسخ أمانة عند صاحبي. بعد سنتين سألته أين النسخ قال اشتريت شقة جديدة وضاعت أثناء النقل. قبل أسبوعين كنا في المقهى وسألت صاحبي “بشرفك شلون ضاعن”. المهاجر منفصل عن الوجود والمكان والزمان ويعيش مأساة الاغتراب العميق الذي يحتاج فلسفة بحجم فلسفة ماركس ليفهمها قال سألتني زوجتي ماذا نصنع بها فقلت لنرمها مع الريسايكل. فاحتججت وقالت “ليش؟”. فقال لها هي لم تفده بشيء ويعمل في معمل أخشاب فكيف ستفيدني؟ ولماذا لم تخبرني الحقيقة؟ كنت أنتظرك تكبر في السن لتكون مستعدا للحقيقة. ديوانك قرأته وليس له معنى فرميت النسخ. كندا علمتنا التفكير بواقعية ولهذا قررت ترك الشعر والكتابة في السياسة. صدمة الهجرة فضحت ثقافتنا كعرب. الشاب العربي لا يعرف الحُبّ إلا في الكهولة بينما الشاب الكندي قضية مختلفة. نظام التربية والتعليم والقانون يجعل الاختلاط متاحا منذ الطفولة. حين يصبح الأبيض فتى يكون قد امتلك كل شيء؛ حقوقه وعاطفته القوية ومعرفته بالمرأة ولا يوجد كبت. هنا يمكن للشاب الكندي أن يستمتع بعلاقة عاطفية. الفضل لجبابرة الدولة الكندية؛ كعلماء النفس وعلماء الاجتماع والسياسيين والقضاة. الشاب العربي من جهة أخرى متذبذب ومبالغ. يسمع أغان عربية عاطفية كلها عن الحُبّ ولا يوجد حبّ. أغان ليس فيها تفاصيل فقط مبالغات، ومعظمها تفتقد لوحدة الموضوع والروح الموسيقية الصحيحة. ليس عندنا أغنية مثل “الرجل المسن” لنيل يونغ ولا “أمس” للبيتلز ولا “سكشوال فيلنغ” لمارڤن غاي ولا “هوتيل كاليفورنا” للإيغلز. عندنا تصنّع وأغانينا ليست تجارب شخصية بل مهنة. الشاب العربي لا يعرف الحُبّ لأن الغريزة الجنسية ملتهبة. وإذا لا يوجد نظام قيم مشابه لقيم الحرية والقانون الغربي فإن الكبت سيكون سيد الموقف. المكبوت كالنمر الجائع والجنس يمنعه من الحُبّ. التفكير بالجنس سيكون أقوى من العلاقة العاطفية. ثم إن الكبت سيجعل المرأة عالما غامضا والعلاقة معها مربكة جدا. في الكهولة تنطفئ النار الجنسية الحارقة عند العربي ويبدأ حينها بامتلاك عيون أخرى فيشعر بالحبّ. العلاقة مع امرأة بوصفها شخصا عزيزا لا يحلّ مكانه أحد. في سنّ متأخرة سيشعر العربي بمعنى الحُبّ ذلك الذي تحدثت عنه الأساطير الإغريقية. الشيء الوحيد الذي سرّني في تورونتو عندما تقول لهم أنت ذاهب لزيارة دبي أو أبوظبي يقولون لك أنت محظوظ متى تذهب؟ تماما كما تقول إنك ذاهب إلى باريس أو فلوريدا أو طوكيو أو تشيلي. بينما حين تقول إنك ذاهب إلى البصرة أول سؤال يطرحه الكندي أين تقع البصرة؟ هذا معناه أن الإمارات قد اشتغلت ونجحت وصارت أسماء مدنها مألوفة جدا على مسامع الأوروبي والأميركي والأسترالي. هذا نجاح عربي كبير وعملاق. كاتب عراقيأسعد البصري
مشاركة :