كما هو معلوم، جاء اتفاق باريس لتغير المناخ نتيجة مفاوضات استمرت سنوات وشاركت فيها الولايات المتحدة بحضور ونفوذ طاغٍ. وفي باريس حيث تم التوصل للاتفاق كان وزير الخارجية جون كيري لا يبرح قاعة المفاوضات وتدخل أكثر من مرة لتغيير كلمات في نص الاتفاق.كثيرة هي الوقائع التي ربما دلت على أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الأول من يونيو / حزيران 2017 بانسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من اتفاق باريس لتغير المناخ، تزامناً مع بدء صياغة آليات تنفيذه، قد جاء متأخرا بعض الشيء بالنسبة للهدف الذي يرمي إليه العهد الجديد. فهو جاء بعد أن أصبحت لقضية تغير المناخ بنية تحتية متكاملة داخل الاقتصاد الأمريكي وفي مختلف قطاعات أعماله، تأسست وترسخت على مدار السنوات التي تبعت بدء سريان مفعول بروتوكول كيوتو في فبراير/ شباط عام 2005 بعد استكمال نصابه المطلوب المتمثل في مصادقة 55 دولة متقدمة عليه على الأقل، بإجمالي انبعاثات مستهدفة للتخفيض تشكل 55% من انبعاثات الدول المتقدمة في عام 1990 وذلك إثر مصادقة روسيا على البروتوكول. لم يكن هناك داعٍ أصلا لقرار الانسحاب، ذلك أن الاتفاق بحد ذاته هو اتفاق طوعي بالتمام والكمال وغير ملزم صراحةً للأطراف الموقعة عليه. فليس هناك تبعات في حال اخفاق الدول الأعضاء في تحقيق هدف خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، ولن تترتب تبعات على الدول المتقدمة المطالَبة بتوفير التمويل اللازم لمساعدة الدول النامية على بلوغ أهداف التخفيف (Mitigation)، والتكيف (Adaptation) المنصوص عليها في الاتفاق. كما أن كل بيانات مراكز الأبحاث ورصد مستويات تركيز الانبعاثات، بما فيها الأمريكية، تؤكد أن تركيز انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون قد وصل في شهر أبريل الماضي إلى 410 أجزاء في المليون (PPM) من غاز ثاني أكسيد الكربون، أي أن ما يفصله عن سيناريو ال 450 مليون جزء في المليون المعادل لدرجتي حراريتين مئويتين، لا يتعدى 40 مليون جزء في المليون، ناهيك عن أن المستوى الذي جرى الاتفاق عليه في باريس لخفض الانبعاثات بهدف حصر نسبة ارتفاع درجة حرارة الجو في درجتين مئويتين خلال الفترة من عام 2015 تاريخ التوصل لاتفاق باريس إلى عام 2100 (نهاية القرن)، لا يملك من حظوظ النجاح سوى 50%. بمعنى أن هذا المستوى الخفيض لأهداف التخفيف عبر آلية المساهمات الوطنية المحددة NDCs، سيفضي حتماً إلى تجاوز درجة الحرارة بنهاية القرن الحد المستهدف. فنحن لم نتجاوز حتى الآن العقد الثاني من القرن ومع ذلك فقد اقتربنا من هذا الحد.حتى تجاوز الانسحاب إلى ما هو أعظم، أي هدم البنى التحتية للقطاعات والدوائر المؤسسية المعنية بقضايا تغير المناخ والتنمية المستدامة، من خلال تعيين سكوت بروت على رأس «وكالة حماية البيئة» (EPA)، وهو شخصية تنتمي لعالم النفط والغاز عُرفت بعدائها لقضية تغير المناخ ولوكالة حماية البيئة الأمريكية نفسها، والذي ظل يحلم بوضع نهاية لهذه الوكالة نهاية شهر ديسمبر 2018، وتعيين وليام هابر مستشاراً علمياً للإدارة وهو الذي وصم يوما عِلم تغير المناخ بالنازية وال«داعشية»، وتعيين ريك بيري وزيرا للطاقة وهو المعروف أيضاً بعدائه لقضية تغير المناخ وبمناداته، كما سكوت بروت ووليام هابر، بضرورة تشديد الرقابة على الاصدارات والمؤتمرات وأوراق العمل والإعلام وملاحقتها بهدف تضييق مساحة انتشار قضية تغير المناخ - حتى كل هذه الخطوات الارتدادية، لن تساعد كثيرا أرباب صناعة الفحم الذين تعهد الرئيس ترامب بمساندتهم بموازاة تعهده بهدم كل ما بناه سلفه بالنسبة لقضية تغير المناخ. ولا ندري كيف ستتعامل الولايات المتحدة، والحال هذه، مع حقيقة أن انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون ازدادت في الولايات المتحدة من 5 مليارات طن في عام 1990 إلى 6.6 مليار طن في عام 2015، أي بمقدار الثلث!دلالة أخرى من دلالات تأخر قرار الانسحاب - بالنسبة للهدف المبتغى منه - تكمن في أنه جاء في الوقت الذي بلغت فيه الصين، «المنافس» الأول للولايات المتحدة في حجم الانبعاثات، مستويات متقدمة جداً في انشاء قطاع اقتصادي ضخم ذي وجهة تجارية هو قطاع مصادر الطاقة المتجددة. فالانسحاب هنا هو بمثابة هدية مجانية للصين لتسلم زمام القيادة العالمية في أهم قضية على أجندة المحافل الدولية على مدار الأعوام المقبلة، وهي قضية تغير المناخ في اتصالها خصوصاً بالطاقة. ففي نفس اليوم الذي أعلن فيه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب بلاده من اتفاق باريس أصدرت الصين والاتحاد الأوروبي بيانا اتفقا فيه على الخطوات التي سيتخذانها للمضي قدما في مكافحة ظاهرة تغير المناخ. كما أصدرت ألمانيا وفرنسا وإيطاليا بيانا (رفضت بريطانيا التوقيع عليه) يدين خطوة الانسحاب الأمريكي من اتفاق باريس لتغير المناخ.الاتفاق، كما هو معلوم، جاء نتيجة مفاوضات استمرت سنوات وشاركت فيها الولايات المتحدة بحضور ونفوذ طاغٍ. وفي باريس تم التوصل للاتفاق في ضاحية لابورجيه في ديسمبر / كانون الأول 2015، كان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لا يبرح قاعة المفاوضات منذ أن بدأت الاجتماعات عالية المستوى في الأسبوع الثاني والأخير من المفاوضات. وتدخل شخصياً أكثر من مرة لتغيير كلمة هنا وعبارة هناك في النص النهائي للاتفاق. ولن ننسى القصة الشهيرة للبند (4) من المادة الرابعة في الاتفاقية حين أصر جون كيري على تغيير كلمة Shall واستبدالها بكلمة Should من أجل اضعاف الزامية الدول المتقدمة بتقديم الدعم المالي للدول النامية ثمنا لموافقتها على أخذ التزامات بالمشاركة في خفض الانبعاثات أسوة بالدول المتقدمة. ولذلك فإن المراجعة التي تحلم بها واشنطن للاتفاق، غير ممكنة اطلاقا، لأنها تفتح الباب أمام شياطين التفاصيل التي من شأنها نسف الاتفاق برمته. ذلك ان الاتفاق يمثل الحد الأدنى والمقبول من جهود جبارة لتوفيق مصالح 197 دولة عضوة في الاتفاقية. د. محمد الصياد * * كاتب بحريني
مشاركة :