يشبه ما حدث لسارة حليمي قصة فيلم رعب؛ ففي الساعات الأولى من الرابع من أبريل (نيسان) الماضي، كانت الطبيبة والمعلمة المتقاعدة البالغة 65 عاماً واليهودية الأرثوذكسية، تنام داخل شقتها المتواضعة في شمال شرقي باريس، حيث تعيش بمفردها. وبعد الرابعة فجراً بوقت قصير، اقتحم المتهم كوبيلي تراوري، 27 عاماً، فرنسي مسلم من أصل مالي، يعيش في الطابق الأسفل، شقة حليمي. وتشير الاتهامات إلى أن تراوري اعتدى بالضرب على جارته حتى الموت، ثم دفع بجسدها من الشرفة ليسقط في الفناء أسفل المنزل. وفي الأيام التالية للحادث، تعاملت السلطات الفرنسية مع مقتل حليمي بوصفه حادثا منفصلا، لكن سرعان ما اعترضت القيادات اليهودية في فرنسا على ذلك الأمر، خصوصا في أعقاب إدلاء الجيران بشهاداتهم وذكرهم أن تراوري كان يصرخ «الله أكبر» بالعربية أثناء مهاجمته حليمي، التي كانت اليهودية الوحيدة المقيمة بالبناية، حسبما أفادت أسرتها. ومنذ ذلك الحين، ظلت قضية حليمي مشتعلة على الساحة الفرنسية، وبعد أشهر من الصمت، خرج الرئيس الفرنسي الجديد إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي ليتعهد علانية بـ«التزام الوضوح في التعامل مع مقتل سارة حليمي».وفي بلد عانى من سلسلة من الهجمات المدمرة خلال السنوات الأخيرة، فإن مثل هذا «الوضوح» يعني الآن أكثر من مجرد الكشف عن التفاصيل المروعة لهذه القضية على وجه التحديد، وإنما يمتد إلى طرح إجابات عن عدد من التساؤلات العميقة ذات الطابع السياسي، بل والوجودي أيضاً: ما الذي يجعل من هجوم عنيف عملاً «إرهابياً»؟ ومن يقرر ما الإرهاب وما جريمة القتل العادية؟من جانبه، ينص القانون الفرنسي على أن الإرهاب هو أي عمل عنيف خطير يهدف إلى «إحداث قلقلة خطيرة في النظام العام من خلال الترويع أو الإرهاب». قانوناً، فإن كبير المدعين العموميين في باريس هو من يملك سلطة إجراء تحقيق حول الإرهاب. وفي حالة سارة حليمي، فإن فرنسوا مولان، الذي يشغل هذا المنصب، رفض التعامل مع القضية على أنها عمل إرهابي، وفي البداية، رفض التعامل مع الأمر كذلك باعتباره واحدا من أعمال العنف المعادية للسامية. وأثار القرار صدمة كبيرة في أوساط المجتمع اليهودي داخل فرنسا، الذي يعد الأكبر على مستوى أوروبا. ورأى البعض في القرار برهاناً على وجود حسابات سياسية تولي لهجمات بعينها ثقلاً أكبر عن غيرها. في هذا الصدد، قال غي ويليام غولدنادل، محامي أسرة حليمي والكاتب المحافظ الشهير في صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية: «هذه جريمة ذات دوافع آيديولوجية ببساطة، فالمتهم تنطبق عليه جميع أوصاف الشخص (الإسلامي) الراديكالي، ومع ذلك نجد ثمة مقاومة بصورة ما لتوصيف الأمور بوصفها الصحيح».على الجانب الآخر، نجد أن تعريف مصطلح «راديكالي» لا يزال محل جدال واسع في فرنسا. في هذه القضية تحديداً، شهد الجيران أنهم سمعوا تراوري يردد آيات من القرآن داخل شقة حليمي. بعد ذلك، في مطلع يونيو (حزيران)، تمكنت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية من الاطلاع على ملف الشرطة الخاص بتراوري، الذي كشف أن له سوابق جنائية تتمثل في جرائم صغيرة، وأن لديه ميولا نحو العنف تكاد تكون مطابقة للأوصاف الخاصة بإرهابيين آخرين مشتبه بهم.وعلى مستوى مختلف، جرى تصنيف حوادث أخرى صغيرة - بعضها يرى خبراء أنها أقل خطورة من مقتل حليمي - على الفور جرائم إرهابية. على سبيل المثال، في يونيو هاجم رجل ضباط شرطة قرب كاتدرائية نوتردام في باريس بمطرقة. وبينما من المعتقد أن تراوري صاح «الله أكبر»، فإن المهاجم في الحادثة السابقة صرخ «هذا من أجل سوريا!». على أي حال، جرى التعامل مع حادثة نوتردام، التي لم يسقط بها قتلى، على أنها عمل إرهابي. وكذلك كانت الحال مع حادث قتل ضابط شرطة في الشانزليزيه عشية الانتخابات الفرنسية في أبريل الماضي، وكذلك محاولة إطلاق النار داخل مطار أورلي في باريس في مارس (آذار)، لكن ليس قتل سارة حليمي.من جانبه، لم يرد مكتب فرنسوا مولان على طلب بالتعليق. ويرى بعض الخبراء الأمنيين أن الاختلاف هنا يكمن في أن الحوادث الأخرى وقف وراءها دافع قوي يتمثل في إثارة حالة من القلق العام، ذلك أنها تعمدت استهداف مناطق مزدحمة.في هذا الصدد، قال جان شارل بيسار، مدير المركز الفرنسي لتحليل الإرهاب، وهو منظمة فكرية مقرها باريس: «مجرد أن شخصاً قتل آخر بسبب الدين ليس كافياً لاعتبار الحادث عملاً إرهابياً، وإنما يتعين وجود درجة من السعي نحو قلقلة النظام العام الفرنسي».بيد أنه بالنسبة لأسرة حليمي، فإن إلقاء جسدها من الشرفة إلى الشارع كان المقصود منه خلق مشهد أسود يراه الجميع، وتوجيه تهديد واضح لليهود الآخرين. وفي مقابلة معه، قال ويليام أتال، 62 عاماً، شقيق حليمي، إن الهدف الرئيسي للأسرة حالياً ضمان الاعتراف العام بأن الجريمة تأتي في إطار العداء للسامية التي يرون أنها قتلت والدتهم وشقيقتهم وجدتهم.وقال: «أود من الجميع أن يستوعبوا أن هذه الأسرة تناضل من أجل الاعتراف بالطبيعة (الإسلامية) المناهضة للسامية لهذا القاتل الذي قتل سيدة يهودية كان يعلم أنها يهودية وأنها تعيش بمفردها».وبالنسبة للمجتمع اليهودي داخل فرنسا، تقدم حادثة قتل حليمي مثالاً آخر على رفض الدولة الفرنسية الإقرار بواقع العداء للسامية داخل فرنسا في وقتنا الراهن. ويرى كثيرون أن هذا الحادث يحمل أصداء مقتل حليمي آخر، وذلك عام 2006، عندما تعرض إيلان حليمي، 23 عاماً، بائع هواتف جوالة ولا تربطه صلة قرابة بسارة حليمي، للاختطاف والقتل من قبل مجموعة أطلقت على نفسها «عصابة البرابرة»، وهي مجموعة من المهاجرين المجرمين يتركزون في ضواحي باريس. وقد استهدفوا الضحية فقط لأنه يهودي، الأمر الذي رفضت السلطات الفرنسية الإقرار به بادئ الأمر.* خدمة «واشنطن بوست»- خاص بـ{الشرق الأوسط}
مشاركة :