ظهر الرقيب الأميركي ديلارد جونسون على محطة «فوكس نيوز» ليعلن في معرض الترويج لكتابه الجديد «كارنيفور» عن قتله 2746 عراقياً خلال خمس سنوات من وجوده في العراق (2005– 2010). مذيع القناة الذي كان يمطره بالأسئلة حول هذا الموضوع بدا متعجلاً ويريد الانتهاء من اللقاء سريعاً، فيما كان حضور الرقيب يعكس اضطراباً واضحاً في شخصيته وأجوبته. جونسون الذي يعاني من أزمات نفسية جدية- كما جاء في التقرير المعد عنه- وصف شعوره بعد قتل العراقيين بأنه كان أفضل بكثير من شعوره عند قتل الغزلان حين كان في الثالثة عشرة من عمره. لم تقدم المحطة في تقريرها عن كتاب «أكلة اللحوم» ما يثبت ضلوعه في صيد الغزلان فعلاً، أم أن كلامه مجرّد تقمص لسيرة أخرى تقع في مكان آخر، والمقصود هنا الفيلم الذي ظهر في تلك الفترة تقريباً بعنوان «صائد الغزلان» للمخرج الأميركي مايكل شيمينو (1978). يحكي الفيلم عن ثلاثة أصدقاء من أصول روسية يعيشون على هامش إحدى ضواحي ولاية بنسلفانيا الأميركية، يتركون العمل في مصنع للفولاذ للالتحاق بالحرب في فيتنام. فيلم طويل (ثلاث ساعات) يحدس ما يقع في المستقبل. وإن بدا أنه لا يدين الحرب للوهلة الأولى، لكنه يجمع في تفاصيله كل تلك الهفوات الصغيرة والكبيرة التي تنتج منها وتفعل فعلها في سحق أبسط وأدق المشاعر الإنسانية التي قد تصادف المرء في مرحلة ما قبل السقوط النهائي. مآلات هؤلاء الأصدقاء تجتمع هنا في رواية الرقيب ديلارد جونسون عن مصيره هو كرجل «معاق» (مريض) نفسياً، وإن صدق عندما حشر «الوطنية البلهاء» في تقرير «فوكس نيوز» عنه من باب تسخيف الأغلبية الصامتة التي ترى في اعترافات «كارنيفور» فعلاً قابلا للتصديق أو العيش. فإن فيلم شيمينو إما أن يكون قد سبق الواقع بكثير، أو أن هذا الواقع لا يصدق حيثيات بعينها، فيعود ويتكئ على رموز الحكاية كلها كما يفعل الآن ديلارد. مايكل وستيف ونيكولاي قبل مغادرتهم الكرنفالية الحرب على أنغام أغنية «أحبك يا عزيزتي»، يذهبون في رحلة صيد عادية للغزلان يكون شعارها الطلقة الواحدة. فيقوم بعض المشاركين في الرحلة ممن لن يشاركوا في الحرب وتأخذهم الحماسة بمطالبتهم بقتل أكبر عدد ممكن من الأعداء. لكن الحرب مسألة مختلفة عن الرغبات، أو أنها لا تقاس بالرغبات عادة، فلن يعود الأصدقاء إلى حياتهم الطبيعية بعد وقوعهم في الأسر وإجبارهم على ممارسة لعبة الروليت الروسية في معتقلات ثوّار الفيتكونغ وحلفائهم من الشماليين مقابل المال. لكن مايكل (روبيرت دي نيرو) ينجح في إنقاذهم من اللعبة المجنونة، فقد وعدهم بذلك أمام الجميع في ضاحية بنسلفانيا، وفي لحظة مأسوية تفشل مروحية أميركية بانتشالهم هم الثلاثة معاً، فيبقى مايكل ونيكولاي في فيتنام ويمضي ستيف إلى وجهة أخرى في الوطن، وهو لن يعود إلى حاله أبداً على أي حال. ينجح مايكل في العودة بدوره إلى أميركا ويذهب في رحلة صيد معتادة، لكن الحرب فعلت فعلها به، فيعفي عن غزال بين الجبال وقع في مرمى قنّاصته ويترك خيار الطلقة الواحدة للأبد، ويعود إلى حياته الغامضة والحذرة بجوار ليندا (ميريل ستريب) وهي صديقة نيكولاس (كريستوفر واكن) ليكتشف أن ستيف صار في مستشفى للمحاربين، وقد عطبت الحرب ساقيه وابتعد من زوجته أنجيلا وطفله، وأن نيكولاس امتهن في عاصمة فيتنام الجنوبية لعبة الروليت الروسية القاتلة وصار إنساناً مختلفاً وهو من يقوم بإرسال المال بين الفينة والأخرى لستيف في المستشفى. في اللحظة التي تنتهي الحرب فيها هناك وتُحاصر السفارة الأميركية في سايغون مؤذنة ببدء مرحلة جديدة في حياة الأصدقاء الثلاثة، يصل مايكل إلى مكان نيكولاس، لكنّ خيار الطلقة الواحدة ينال منه في صدغه تماماً بعدما نجح في تجاوزه طيلة السنوات الماضية. يحدث هذا كله في الفيلم السينمائي، أما في الواقع الذي تقودنا إليه المحطة الأميركية عبر سرد حكاية الرقيب ديلارد جونسون الحاصل على 37 ميدالية حربية «تقديراً لبطولاته»، فهناك نوع من إعادة «تقشير» هذا الواقع إن جاز التعبير– تلفزيونياً– لحساب سرد ملتبس عن الآثار الوحشية للحروب. لقد بقي فيلم «صائد الغزلان» أحجية من أحجيات الأفلام التي صنعت عن فيتنام، إن لجهة حضور ممثليه وممثلاته، أو لجهة نوع الثيمة التي شكلت خلفية لكل هذه الأحداث التي يرويها. حتى أن بعض من يفتقد فيه إدانته الصريحة هذه الحرب، أو حتى تبرير بعض سلوكيات أبطالها ومجرياتها، يدرك أن مايكل شيمينو قد مضى عميقاً في سبر أغوار شخصياته- قبل تسجيل واقعة الرقيب تلفزيونياً بأربعة عقود تقريباً- وبطريقة لم يسبقه إليها أحد، لا سيما عندما حكى عن شعور أبطاله خلال صيد الغزلان قبل أن يتوجهوا للنيل من الأعداء.
مشاركة :