يتوقع عاملون في قطاع الطيران أن تحقق شركات الفضاء والطيران البريطانية عوائد تقدر بـ 600 مليار دولار خلال العقدين المقبلين، الأمر الذي يستدعي قيام المملكة المتحدة بتقديم الحماية المطلوبة لهذه الصناعة في ظل المنافسة الآسيوية. وتعد صناعة الطيران والفضاء البريطانية الأولى أوروبيا، والثانية على مستوى العالم بعد نظيرتها الأمريكية. وتعد لندن حاليا مزودا أساسيا للمكونات المطلوبة من عملاقي الطيران الدوليين إيرباص الأوروبية وبوينج الأمريكية. وتمتلك المملكة المتحدة نحو 3000 شركة تعمل في مجال صناعة الطيران والفضاء، ويبلغ عدد العاملين بشكل مباشر في هذا القطاع نحو 110 آلاف شخص في مختلف التخصصات. ويقفز هذا العدد إلى 250 ألف عامل إذا ضمنه العمالة غير المباشرة، فيما تعد شركة "رولزرويس" البريطانية أكبر منتج للمحركات، وشركة "جي ك إن" مصنعة مكونات الأجنحة في مقدمة الشركات البريطانية العاملة في هذا الحقل. وخلال العام الماضي حقق قطاع الفضاء والطيران البريطاني نحو 27.8 مليار جنيه استرليني بزيادة تقدر بـ 9.4 في المائة عما حققه عام 2012. وتشير هيئة الصناعة والتجارة البريطانية إلى أن مسحا إحصائيا قامت به شركات هذا القطاع خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الجاري كشفت أنه حقق عوائد تقدر بـ 7.7 مليار جنيه استرليني، وذلك من خلال توفير قطع ومكونات صناعية لنحو 519 طائرة من منتجات شركتي إيرباص وبوينج، ومثّل ذلك زيادة بنسبة 5 في المائة مقارنة بالفترة نفسها العام الماضي. كما عكست الزيادة مدى النجاح الذي تحققه "بوينج" و"إيرباص" على المستوى العالمي، وزيادة الطلب على منتجاتها من الطائرات في الأسواق الناشئة والبلدان المتطورة. وعلى الرغم من أن أسواق أمريكا الشمالية وأوروبا تستوعب نحو 70 في المائة من صادرات الشركات العاملة في مجال صناعة الطيران والفضاء في بريطانيا إلا أن المبيعات البريطانية للشرق الأوسط وتحديدا منطقة الخليج العربي زادت بنسبة 75 في المائة خلال عام 2013، ليكون الشرق الأوسط هو السوق الأسرع نموا. ويعود الفضل إلى دولة الإمارات العربية المتحدة موطن عديد من شركات الطيران الرائدة إقليميا وعالميا، التي تتوسع بمعدلات ملحوظة إلى هذا النجاح، إلا أن الأمر لم يقف الآن عند حدود تمدد شركات الطيران الإماراتية، بل إن بعض الشركات التابعة للحكومة مثل "مبادلة" تنتج حاليا بعضا من القطع المستخدمة في صناعة الطيران والفضاء. من جانب آخر، زادت صادرات شركات الفضاء والطيران البريطانية للصين بنسبة 23 في المائة عام 2013، وتتوقع لندن آفاقا أكثر رحابة في المستقبل لصادراتها لبكين، وذلك مع قيام شركة كومك الصينية لصناعة الطائرات بتطوير طراز جديد من الطائرات ينافس بعض أنواع الطائرات المنتجة من قبل "إيرباص" و"بوينج"، ويفتح ذلك أسوقا مستقبلية واعدة للشركات البريطانية. ويتوقع أن تبلغ قيمة إنتاج الشركات الصينية العاملة في هذا المجال نحو 15 مليار جنيه استرليني بحلول عام 2022. ومع هذا فإن الصورة الوردية لآفاق صناعة الطيران والفضاء البريطانية تُواجه تحديين أساسيين قد يحولان دون الاستفادة القصوى من زيادة الطلب العالمي على منتجاتها، أول هذه العقبات هو افتقادها السيولة المالية اللازمة للتوسع، وعدم مرونة المصارف البريطانية في منحها القروض الضخمة للمضي قدما وتطوير قدرتها الإنتاجية، أو إنشاء فروع إنتاج أخرى، وتتعلق تلك المشكلة تحديدا بالشركات الصغيرة العاملة في هذا المجال، حيث تضع المصارف البريطانية عديدا من القيود على عملية الإقراض عموما، وتقود المشكلة الأولى جزئيا إلى المشكلة الثانية، إذ يفتقد عديد من الشركات العاملة في هذا القطاع القدرة على توظيف مزيد من الأيدي العاملة الماهرة من مهندسين أو فنيين، وذلك في ظل ارتفاع أجورهم. ويشير المهندس نورما ميل المختص في مجال الاتصالات إلى جانب آخر من المشكلة، قائلا "على الرغم من زيادة الطلب على الطائرات المنتجة من قبل شركتي إيرباص وبوينج، وهو ما يؤدي عموما إلى ارتفاع الطلب على المكونات الصناعية المطلوب من شركات صناعة الفضاء والطيران إنتاجها لتمويل هذين العملاقين، إلا أنه يجب الإقرار بأن الطلب العسكري هو العنصر الحاسم في تطور تلك الصناعة"، مضيفا "تراجع الإنفاق العسكري جراء الأزمة الاقتصادية عامل مهم للتأثير السلبي في هذه الصناعة، فهو يؤدي إلى انخفاض ضخم في الطلب، والأهم في تعزيز جوانب الأبحاث والتطوير، وهذا الجانب هو العامل الحاسم في تطوير هذه الصناعة". يذكر أن الأزمة الاقتصادية التي اندلعت أواخر عام 2008 قد دفعت بعديد من الشركات البريطانية لنقل إنتاجها أو جزء كبير منه إلى الخارج في محاولة لخفض التكاليف، ومع تحسن وضع الاقتصاد البريطاني في الآونة الأخيرة، فإن هذه الشركات بدأت في العودة مجددا إلى بريطانيا. ويشير مسح إحصائي لشركات صناعة الفضاء والطيران البريطانية إلى أن ثلاثة أرباع الشركات العاملة في هذه الصناعة تخطط الآن لزيادة استثماراتها خلال العام المقبل، وأن شركة من كل أربع شركات نقلت نشاطاتها خارج بريطانيا، قررت العودة لممارسة نشاطها في المملكة المتحدة. وكان بول أفريت رئيس هيئة الصناعة والتجارة البريطانية قد صرح أخيرا لوسائل الإعلام بأن "المشاريع المشتركة" بين الحكومة والشركات الخاصة العاملة في هذا القطاع، ستساعد كثيرا على توسيع وتطوير وتحسين الأداء. وقد رصدت الحكومة البريطانية العام الماضي مليار جنيه استرليني لمجال الأبحاث والتطوير، حيث يأمل وزير الأعمال البريطاني أن تقود تلك الصناعة "الانتعاش الاقتصادي الحالي". ويعلق الدكتور جون فالنسي أستاذ مادة الاقتصاد البريطاني في جامعة لندن لـ "الاقتصادية"، قائلا "التقارير الرسمية أشارت إلى أن صناعة الفضاء والطيران البريطانية نمت عشر مرات أسرع من نمو الاقتصاد البريطاني خلال السنوات الثلاث الماضية، وإنها تحقق 28 مليار دولار سنويا، من بينهم 10.9 مليار جراء الصادرات، وهذه الصناعة البريطانية تمثل حاليا 17 في المائة من إجمالي الصناعة العالمية في هذا المجال"، ويضيف "تعكس الأرقام الوضع المميز الذي نتمتع به عالميا، ويمكن لنا أن نتوسع أكثر مستقبلا من خلال مشاريع مشتركة مع شركاء آخرين كالبلدان الخليجية والصين، فالأولى تمتلك قدرة مالية ضخمة يمكن أن تحل مشكلة الصعوبات التي نواجهها جراء إحجام المصارف عن منح قروض، والصين تستطيع توفير أيدٍ عاملة رخيصة وبدرجة عالية من الكفاءة". لكن اتجاه الشراكة واسعة النطاق مع الصين في هذا المجال الحيوي لا يزال يُواجه بعدم ترحيب من بعض الشخصيات المؤثرة. فقد نقلت صحيفة "الإندبندنت" عن رئيس الأكاديمية الهندسية الملكية، خلال مؤتمر رسمي عن مستقبل وتحديات صناعة الفضاء والطيران البريطانية قوله إنه "لا يشك مطلقا في أن المملكة المتحدة ستواجه منافسة ضخمة من البلدان الآسيوية، خاصة الصين"، مؤكدا أنه لا يوجد خيار أمام القائمين على تلك الصناعة إلا أن تكون "مبدعة" لحماية نفسها من "الصين". ويخشى عدد كبير من الاقتصاديين والوزراء البريطانيين، من أن عملية النمو الاقتصادي الراهن لا تزال تعتمد على الداخل وتحديدا على إنفاق المستهلكين وليس على عمليات التصدير في القطاعات ذات العوائد الضخمة مثل قطاع الفضاء والطيران، وهو ما يؤكد أن خيار بريطانيا بمواصلة العمل على تطوير ودعم هذه الصناعة باعتبارها أحد القطاعات الرائدة في منظومتها الاقتصادية خيار استراتيجي.
مشاركة :