في خطاب ألقاه الرئيس الاميركي دونالد ترامب في وارسو مطلع حزيران (يونيو) الماضي، وتناقلته وسائل الإعلام بشكل واسع، أعلن أن ما يعرف بـ «الحضارة الغربية» تواجه خطر الاضمحلال على يد «من يسعون إلى تدميرها». وهكذا خلص إلى هذه الأسئلة الأساسية: «هل للغرب الإرادة للاستمرار؟»، و «هل نؤمن فعلاً بقيمنا للحفاظ عليها مهما كان الثمن؟». وفي حين أن عنصرية ترامب لا تخفى على أحد، فهو لم يسبق أن عبّر عنها بهذه العبارات الصريحة من قبل، مستخدماً لغةً تذكّرنا إلى حدّ بعيد بالمقال الشهير الذي خطّه في العام 1993 المفكّر الاستراتيجي صامويل هانتينغتون وعنوانه «صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي»، الذي ورد فيه أنه مع الانتهاء المفاجئ للحرب مع الاتحاد السوفياتي، ستكون الانقسامات العالمية الكبرى ذات طابع ثقافي وليس سياسياً وأيديولوجياً، وأن الإسلام سيكون «العدو الأعظم» لـ «الحضارة الغربية». هل يوفر هذا الكلام دليلاً على الدافع وراء تصريحات ترامب في وارسو؟ يبدو لي أنه هكذا تماماً؟ أولاً، وكما أشار زميلي الموقر في جامعة هارفارد، البروفسور روي متحدة في ذلك الوقت، إلى أن هانتينغتون لم يعرض على الولايات المتحدة مجرد مبدأ يمكن من خلاله ترتيب نظام حقبة ما بعد الحرب الباردة، ولكنه أيضا بثّ فيها إحساساً بالهدف لدعم دورها دولة رائدة عالمياً. واليوم، وفي مواجهة مجموعة جديدة من التحديات التي تفرضها القوى الآسيوية الصاعدة مثل الصين والهند، يمكن اعتبار أن أميركا التي يريدها ترامب، سياسياً، تقوم بإعادة تحديد مكانتها في العالم بطريقة تفيد قاعدته من مسيحيين إنجيليين في الجنوب والغرب، على رغم افتقاره الواضح للإيمان، وكذلك الأميركيين المعنيين بالحفاظ على أميركا البيضاء ضد ما يعتبرونه تدفقاً مستمرّاً من ذوي الأصول الإسبانية والمسلمين وغيرهم ممن لهم قيم ثقافية تختلف كثيراً عن القيم الخاصة بأولئك الأميركيين البيض. أما المزيد من الحجج التي تساند هذا الرأي على جدول أعمال ترامب، فتبرز عند النظر إلى المواقف العامة لكثير من أقرب مستشاريه، مثل الجنرال ماكماستر وغاري كوهن اللذين يعتبران أن العالم لا يشكل مجتمعاً عالمياً حقيقياً، بل هو ساحة تشارك فيها الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية والشركات التجارية الكبرى وتتنافس للتميّز. وبالتالي، يجب على أميركا أن تجد حلفاء حيث أمكن بين أولئك الذين يبدو أنهم يشاركونها قيمها الأساسية، سيّما المسيحية منها. أما أن تكون إعادة توجيه السياسة الخارجية الأميركية خياراً قابلاً للتطبيق على المدى المتوسط فهذه مسألة أخرى تماماً، لأنها قد تتحوّل بسهولة إلى نوع من الانعزالية كما في اجتماع مجموعة العشرين الأخير في ألمانيا، حيث بدا ترامب وحده تماماً عندما يتعلق الأمر بدعمه الحمائية وضد تدابير مواجهة تحديات تغير المناخ. ثم هناك أيضا معارضة قوية من قادة العالم، مثل البابا فرانسيس من خلال هجماته الواضحة على ستيفن بانون، الذي يعتبر العقل المفكر لترامب، والذي يؤيد سياسة خطرة تقوم على كراهية الأجانب ونشر الخوف من الإسلام والسعي إلى بناء جدران بدلاً من فتح الحدود، يرافق كل ذلك ترحيل مطرد للمهاجرين الذين يرفضون الامتثال للقيم البيضاء «المسيحية» المفترضة. أما الأمر الملفت الآخر، أو ما آمله، فهو الاعتراف الأساسي بحقيقتين عالميتين حيويتين. من ناحية، يبدو من السخرية القول، كما يحاول بعض المقرّبين من ترامب القيام به، إن «الإرهاب الإسلامي الراديكالي» يشكّل تهديداً وجودياً هائلاً جداً إلى درجة تسميم العلاقات مع أكثر من بليون ونصف بليون مسلم في جميع أنحاء العالم. ومن ناحية أخرى، فإن فكرة وجود مجتمع عالمي مشترك تعكس الآن حالة لا رجعة عنها حيث دفع تطور التكنولوجيا والتنمية الاقتصادية الغالبية العظمى من البشر إلى الاعتماد إلى حد كبير بعضها على بعض بطرق لم يسبق لها مثيل. ومع ذلك، وحتى الآن، وتماماً عندما أعادت دولة بأكملها إطلاق فكرة «صراع الحضارات» بعد مرور ربع قرن على استعمال هنتينغتون هذه العبارة، وجدنا أنها تضخّ بعضاً من الحياة السياسية عند أولئك الذين يشعرون بالتهديد من قبل القوى العالمية التي لا سيطرة لهم عليها، فـ «المشاعر» هي جزء أساسي من العملة السياسية الغربية في هذه الأيام. في حين أنه، وكما كان الحال دائماً، ثمة قدرة على التشجيع على نقد أولئك الذين مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا يرون في تاريخ أمتهم سوى سلسلة من الهجمات على الأتراك والمسلمين منذ أيام الحروب الصليبية المسيحية وصولاً إلى الحرب العالمية الأولى. أما بالنسبة إلى دونالد ترامب، الرجل وقائد العالم الحر، فإن موقفه هو نموذج عن القيم الحضارية التي تتناقض كثيراً مع أخلاقياته الشخصية رجل أعمال لا ضمير له، وزوج شارد، ومدير لأعمال العائلة الذي لا يبتسم والتي يبدو أعضاؤها غير قادرين، أو ربما غير راغبين بكل بساطة على التمييز بين ما يمكن أن يكون صحيحاً من الكذب الواضح. لا عجب أن ترامب قضى وقتاً طويلاً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أخيراً في هامبورغ، ولا شك في أنه تعلم شيئاً عن خداع الناس بطبيعته وبصدق نواياه. فعندما يتعلق الأمر بالحديث عن قيم «الحضارة الغربية»، يحتاج دونالد ترامب إلى كل المساعدة التي يمكنه الحصول عليها. * أكاديمي بريطاني - جامعة هارفارد
مشاركة :