في إطار وثيقة لبنك المغرب المركزي، بدأت حكومة الرباط منذ عام 2010 التحضير لإصلاح نظام الصرف، بناء لتوصية من صندوق النقد الدولي. وفي العام الماضي، قررت البدء في اعتماد مرونة سعر الصرف للدرهم بـ «تعويمه» على مرحلتين، لتجنب قدر الإمكان انعكاساته السلبية وتداعياتها المالية والاقتصادية والاجتماعية، تمهيداً لتحقيق الانفتاح الاقتصادي للمغرب على العالم الخارجي ورفع القدرة التنافسية للشركات المغربية، وزيادة حجم التصدير، وخفض حجم الاستيراد، وبالتالي تقليص العجز في الميزان التجاري الذي بلغ مستويات خطيرة. وعلى رغم اعترافه بأن قرار التعويم يحمل بعض الأخطار، أكد محافظ البنك المركزي المغربي عبداللطيف الجواهري «أن لدى المغرب كل الضمانات من أجل إنجاح هذه الخطوة، والحد من انعكاساتها السلبية، خصوصاً أنه حصل من صندوق النقد الدولي على قرض ضد الأخطار»، مؤيداً هذا القرار الذي وصفه بأنه «قرار شجاع وتاريخي، اتخذه المغرب في شكل سيادي وإرادي من دون إملاءات خارجية». واستبعد (أي الصندوق) في بيان رسمي «وجود أخطار على الدرهم أو خفض قيمته، كما حصل في بلدان أخرى مثل مصر وتركيا والأرجنتين، لأن هامش التحرير في المرحلة الأولى سيكون في حدود 5 في المئة، وهي نسبة لن تؤثر في معدل التضخم أو الأسعار». وهكذا يستند المغرب إلى تفاؤل الصندوق الذي وفر له 3 خطوط ائتمان منذ عام 2012، بقيمة 14 بليون دولار، سينتهي آخرها في العام المقبل وقيمته 3.42 بليون دولار، مع احتمال موافقته قبل نهاية العام الحالي على خط ائتمان رابع. وهذا التفاؤل يستند بدوره إلى سلسلة مؤشرات إيجابية أكدها الخبراء في إطار المراجعة السنوية للخط الوقائي الائتماني والمادة الرابعة من ميثاق الصندوق، وهي تتوقع ارتفاع النمو في المغرب إلى 4.8 في المئة بنهاية العام الحالي، وهو أعلى معدل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مستفيداً من تحسن الإنتاج الزراعي، وظروف دولية مساعدة تتسم بتراجع الأخطار الإقليمية والخارجية، إلى جانب تحسن في المؤشرات الماكرو اقتصادية. وتوقع كذلك ارتفاع الدخل القومي المغربي إلى 137 بليون دولار عام 2022، بزيادة نحو 31 بليون دولار، ما ينعكس إيجاباً على تحسن الدخل الفردي بنحو 900 دولار. وبما أن حجم الاحتياط النقدي يعتبر من أهم ضمانات نجاح تعويم سعر صرف الدرهم، توقع الصندوق أن يتضاعف ليصل إلى نحو 42 بليون دولار بحلول عام 2022. لذلك أبدى ارتياحه لمختلف ظروف المغرب التي تبدو مساعدة لخوض هذه التجربة، مع توافر كل المؤشرات المشجعة، لكنه أبلغ حكومة الرباط أنه «لا يتدخل في طبيعة القرار، وموعد تنفيذه». في مقابل هذا التفاؤل المشجع من قبل مؤسسة دولية تقدم للمغرب تسهيلات ائتمانية ببلايين الدولارات، لا بد من التطرق إلى مؤشرات ووقائع سلبية لها تأثير كبير في مسيرة نمو الاقتصاد المغربي، خصوصاً لجهة قيمة تجارته الخارجية، وانعكاسها على مستوى المعيشة وارتفاع الأسعار. لقد جرت محاولات عدة وحددت مواعيد متتالية، لبدء تنفيذ قرار التعويم، ولكن تم تأجيلها، وكان آخر موعد حدد في الأول من الشهر الجاري، وتم تأجيله بناء لطلب وزير الاقتصاد والمال محمد بوسعيد، من دون تحديد موعد آخر. أما أسباب التأجيل، فهي تعود أولاً، سياسياً، إلى تأخر تشكيل الحكومة الحالية لأكثر من ثمانية أشهر بعد الانتخابات التشريعية في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، وثانياً مالياً واقتصادياً واجتماعياً، إلى مضاربات تشهدها الأسواق المالية وهروب من العملة الوطنية إلى الدولار واليورو، منذ الإعلان عن خطة الحكومة بتعويم جزئي لسعر صرف الدرهم. وقد اضطر البنك المركزي إلى التدخل بائعاً العملة الأجنبية لتلبية الطلب الذي كان يفوق العرض، ما أدى إلى زعزعة وضع الاحتياط النقدي الذي ظل في مستوى شبه مستقر مع ميل ضئيل للارتفاع خلال الشهور الأخيرة من عام 2016 ومطلع 2017، ومحافظاً على حجم قيمته 25.2 بليون دولار، ولكنه بدأ بالانخفاض في منتصف شباط (فبراير) إلى 24.8 بليون دولار، واستمر بالانخفاض تدريجاً ليصل إلى 21.5 بليون دولار بنهاية حزيران (يونيو) الماضي. ولكن هذا التأجيل الأخير كان مفاجئاً للمضاربين وكبدهم خسائر فادحة، إذ كانوا يراهنون على ارتفاع سعري اليورو والدولار، وهما العملتان اللتان تستند إليهما العملة المغربية، الأولى بنسبة 60 في المئة، والثانية 40 في المئة. وجاءت خسارتهم مع استمرار تدخل البنك المركزي للإبقاء على السعر المحدد لصرف العملات بعيداً عن «التعويم» الذي سيتم في وقت لاحق، بعد استكمال إجراءات إضافية ضرورية لضمان نجاحه. وإضافة إلى المضاربات، ساهم في تراجع حجم الاحتياط النقدي أيضاً، ارتفاع أرقام عجز الميزان التجاري، مع الإشارة إلى أن هذا العجز بلغ نحو 10 بلايين دولار العام الماضي، بزيادة 3 بلايين دولار وبنسبة 37 في المئة عليه عام 2015، خصوصاً أن المغرب يهدف من تعويم الدرهم إلى تطوير تنافسية تجارته الخارجية نحو أسواق أفريقيا والشرق الأوسط ودول الاتحاد الأوروبي، وجذب مزيد من الاستثمارات والتدفقات المالية الخارجية، ما يتطلب توفير احتياط نقدي يغطي فاتورة وارداته لأكثر من سبعة أشهر، ما يدل على تكرار «حرب العملات» بين السلطة النقدية والمضاربين، من تجار ومستثمرين ومصرفيين ورجال أعمال، في كل مراحل «التعويم» التي قد تستغرق 15 سنة. كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية
مشاركة :