مع تواتر التقارير الإعلامية التي تتحدث عن حالة التذمر في الشارع القطري، وتنذر بغضب شعبي عارم ضد تنظيم الحمدين، يتساءل المراقبون عما إذا كان الوقت قد حان ليحصد حكام الدوحة بعض ما زرعوه من فتنة وفوضى وخراب في المنطقة العربية، قبل وبعد وأثناء ما سمي بثورات الربيع العربي التي استهدفت الدول والشعوب والمجتمعات والجيوش الوطنية والمؤسسات السيادية، ونتجت عنها خسائر فادحة بلغت نحو 500 ألف قتيل و13 مليون لاجئ، وأكثر من تريليون دولار، إضافة إلى ملايين المصابين والمعوقين والأرامل والأيتام والمفقودين والجياع والمفقرين والمعطلين عن العمل. ويشير محللون سياسيون إلى أن النظام القطري سيدفع ثمن جرائمه في المنطقة والعالم، بعد أن تأكد فشله مشروعه المبني على مبدأ تأجيج الصراعات في العالم العربي. وفي هذا السياق، أكد الخبير البريطاني في شؤون الشرق الأوسط كريستيان كوتس أورليخسن، في كتابه «قطر والربيع العربي» الصادر عن دار النشر التابعة لجامعة أكسفورد، أن البحث عن دور في منطقة معقدة ومشتعلة بالاضطرابات مثل الشرق الأوسط، لا يمكن أن يكون مهمة سهلة، ولا يمكن أن يمر في حالة فشله مرور الكرام، إذ إن أي دولة تضع رأسها بين فكي الأسد المسمى بالشرق الأوسط، لا بد أن تضع في حساباتها احتمال انغلاق فكيه عليها في أي لحظة، مع أي تحرك غير محسوب، أو أي خطوة لا تصل بها إلى الإجابة الصحيحة. تساؤلات وفي محاولة لتفسير وضع الإمارة الخليجية الصغيرة بعد انهيار مشروعها «الثوري»، طرح صاحب الكتاب جملة من الأسئلة الجوهرية ليحاول الإجابة عنها في ما بعد، ومن بينها: ما مدى تماسك قطر من الداخل؟ وهل هذه الدولة التي أصرت على إقحام نفسها في شؤون الدول من حولها، تملك ما يكفي من الاستقرار الداخلي قبل أن تفكر في هز استقرار الدول الأخرى؟ وهل تثق قياداتها في شعبها؟ وهل يدعم شعبها قياداتها؟ وهل تملك قيادات قطر ما يكفى من التأييد الداخلي لسياساتها الخارجية؟ أم أن تدخل قطر الزائد في شؤون دول ما يسمى بثورات الربيع العربي وما أدى إليه هذا التدخل من كراهية شعوب تلك الدول لها، يمكن أن يتحول في لحظة ما، إلى موجة من الغضب الشعبي الداخلي؟ يقول أورليخسن: «في العادة لا تبدأ الفوضى صريحة، ولكنها تبدأ بالتراكم. شرارة صغيرة تشعل حريقاً صغيراً، يتم إخماده سريعاً، لكنه يترك أثراً، يتضاعف مع كل شرارة مماثلة، حتى تجد أي سلطة نفسها فجأة في مواجهة حرائق تلتهم كل شيء. والسؤال هو: هل بدأت هذه الشرارات بالفعل تظهر في قلب قطر منذ أواخر عهد الأمير السابق حمد بن خليفة، لتلتهم كل شيء في عهد نجله تميم؟». ويضيف: «مع كل ذلك الجهد الذي قام به قادة قطر للتدخل في شؤون الدول الأخرى، وعلى رأسها دول الربيع العربي، ومع كل حديث قيادات قطر عن ضرورة تغيير الأنظمة العربية، كان من الطبيعي أن تتجه أنظار العالم بقياداته وشعوبه، إلى قلب قطر، ليصبح الاهتمام العالمي بشؤون قطر الداخلية، أكبر حتى من تدخلها في شؤون الدول الأخرى». انفجار داخلي ويشير الباحث البريطاني إلى أن الأمر كان يحمل تحدياً مزدوجاً ومضاعفاً بالنسبة لنظام الدوحة. فمن ناحية، كان الضغط القطري على الأنظمة التي قامت ضدها اضطرابات الربيع العربي انطلاقاً من تونس ثم مصر فليبيا واليمن وسوريا، ودعم الدوحة المطلق للاضطرابات التي أطاحت بأنظمة وزعزعت أخرى، يقفان في حالة تناقض صارخ مع ضعف التعددية السياسية والحريات في قطر نفسها بشكل أكبر من أن يتم تجاهله. ومن ناحية أخرى، بدا أن ما قامت به قطر من اتباع سياسة جمع الأعداء، ومراكمتهم ضدها بسبب سياسات قادتها القائمة على التدخل في شؤون الدول الأخرى من حولها، قد تحول إلى ما يشبه القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر بشدة ضد الدوحة، لتنقلب تحركات قطر عليها، لو ظهرت أي بوادر لعدم الاستقرار الداخلي فيها، حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنكر الدوحة أن دعمها للاضطرابات في المنطقة أصبح مكشوفاً، كما قضت تغطية قناة «الجزيرة» لأحداث ما سمي بالربيع العربي وما بعدها، على أي رصيد للثقة في النوايا الحسنة لقطر، وليس من الصعب الآن أن نتخيل ردة فعل الدول التي كانت تتلقى انتقادات وهجوم الجزيرة القطرية، لو ظهرت مشاكل في الداخل القطري، أو عندما يظهر أحد المدافعين عن الحقوق والحريات في قطر، رافعاً صوته معبراً عن رأيه، ثم يتعرض للقمع، كما حدث مثلاً في صيف 2012، عندما قام علي خليفة الكواري، أحد الأكاديميين والمفكرين البارزين في قطر، بنشر عريضة أطلق عليها: «الشعب يريد الإصلاح في قطر أيضاً»، وتم طبع الكتاب في بيروت، حاملاً إسهامات 11 أكاديمياً وكاتباً قطرياً، طالبوا برفع صوت موحد ينادي بالإصلاح في قلب قطر نفسها، بعد أن وجدوا أن القنوات الرسمية التي يمكنهم بها إيصال أصواتهم مملوكة للحكومة القطرية، هي في حقيقتها بلا معنى ولا جدوى». خلل مزمن ويعتبر كتاب «الشعب يريد الإصلاح في قطر أيضاً» دليلاً على أهمية التطرق إلى أوجه الخلل المزمنة في قطر، ورد في مقدمته أنه نتاج لقاءات شهرية نظمها عدد من القطريين المهتمين بإصلاح أمور بلادهم بين عامي 2011 و2012 تحت عنوان «لقاء الاثنين»، وقام المفكر والأكاديمي علي خليفة الكواري بجمعه ونشره، متضمناً مشاركات لخبراء ومهتمين بالشأن القطري، امتد نطاق مواضيعها من حالة الهوية واللغة العربية في قطر، مروراً برؤية قطر 2030 التنموية، وصولاً إلى دستورها الذي صدر في عام 2004. وغطت فصول الكتاب موضوعات مختلفة، منها الجوانب الدستورية والسلطة القضائية وحكم القانون والمسألة السكانية والمجتمع والثقافة والإعلام والتعليم والهُوية وتراجع دور اللغة العربية في الإدارة والتعليم واستخدامات الغاز الطبيعي وصادرات الغاز والبيئة وغيرها. كما يحتوي الكتاب على قراءة نقدية رصينة لاستراتيجية قطر الوطنية والحاجة للإصلاح في ضوء أوجه الخلل في دستور 2004. ولخص الكواري في مقدمة الكتاب عقبات الإصلاح في أربع عقبات، أولها حجب المعلومات ذات العلاقة بالشأن العام ولاسيما في القضايا المهمة كالسكان والتجنيس والمال العام، وثانيها غياب الشفافية تجاه القرارات المصيرية المحددة «لحاضر البلد ومصير المجتمع ومستقبل أجياله القادمة»، كما في الاتفاقيات الأمنية ونظام التأمين الصحي والتعليم. وثالثها ضيق هامش حرية التعبير عن الرأي وغياب مؤسسات المجتمع المدني المستقلة التي تهتم بالشأن العام وبحقوق المواطن وحقوق المهنيين والعمال وواجباتهم. أما العقبة الرابعة فهي الخلط بين العام والخاص وقصور نظام الإدارة العامة، الأمر الذي يعرقل قيام الإدارة العامة بوظيفتها المركزية و«ضمان توظيف المال والنفوذ والقرار العام من أجل المصلحة العامة التي يتم التوصل إليها من خلال الدراسات والحوارات الجادة التي يشارك فيها المواطنون عامة والمهنيون على وجه الخصوص»، كما أورد في مقدمة الكاتب. صرخة جادة ووفق دراسة تحليلية نشرها عبدالفتاح ماضي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإسكندرية، فإن الكتاب صرخة جادة وعلمية من مجموعة وطنية من المهمومين بقضايا وطنهم، يجمعهم شعور قوي بضرورة رفع «صوت جماعي للإصلاح في قطر» بعد أن غابت طرق التعبير والحوار في الهامش الرسمي المتاح. وأما العوائق الأخرى التي تقف في وجه إصلاح قطر فتكمن في تركيز عوائد النفط الواسعة في يد حاكم قطر وحده، ليقوم بتوزيعها بالشكل الذي يراه مناسباً، ويستخدمها عادة لكي يشتري بها ولاء الآخرين، سواء في الداخل أو خارج الحدود، والثاني هو استمرار الحماية الخارجية للحاكم القطري طالما ظلت القوى الخارجية راضية عن تحركه في صالحهم، أما الثالث فهو انخفاض نسبة المواطنين القطريين أنفسهم كنتيجة للدعم الذي يتم منحه للعمال الأجانب الذين لا يشاركون المواطنين اهتماماتهم ولا مصالحهم، ولا يشعرون بأن لديهم أي حقوق سياسية ولا اجتماعية لدى الحاكم السلطوي، تاركين الحاكم في قطر يحكم دولة صار أغلب شعبها دون أي حقوق سياسية، ويمكن ترحيله وقتما يشاء». محاكمة شاعر وبالعودة إلى كتاب كريستيان كوتس أورليخسن «قطر والربيع العربي»، فإن ما يزيد من الإساءة لسمعة قطر أمام العالم، أنه لا قناة الجزيرة، ولا أي من وسائل الإعلام القطرية، قد منحت أدنى قدر من الاهتمام لقضية الشاعر القطري محمد بن الذيب العجمي الذي يبدو أنه تأثر بالخطاب الرسمي لحكومة بلاده وبإعلامها الموجه فاندفع مرحباً بالربيع العربي وداعياً إلى حلول قطاره في قطر، ليجد نفسه معزولاً في زنزانة، وهو ما أكد الشكوك التي كانت قائمة حول قناة الجزيرة، وإصرارها على اتباع سياسة المعايير المزدوجة، في تركيزها الصارخ والمبالغ على الأحداث التي تقع خارج قطر، وتكتمها وتعتيمها الواضح على ما يجري داخل خارج الإمارة الصغيرة. وكانت هذه الضغوط والانتقادات الدولية على ما يبدو، سبباً لكي تحاول الجزيرة تدارك خطئها، وتقوم بتغطية استئناف الحكم على الشاعر، وتخفيفه إلى السجن لمدة 15 عاماً، وقال نجيب النعيمي محامي العجمي آنذاك: إن السلطات في قطر، تحاول أن تظهر لمواطنيها أنهم سيتلقون معاملة مماثلة لما جرى للشاعر العجمي، لو أنهم تجرؤوا وفتحوا أفواههم. وكانت محكمة أمن الدولة القطرية قد حكمت في 29 نوفمبر 2012 على الشاعر محمد بن الذيب العجمي بالسجن المؤبد بتهمة «التطاول على رموز الدولة والتحريض على الإطاحة بنظام الحكم». وقالت منظمة العفو الدولية في بيان إن النيابة العامة القطرية قد تكون استندت في التهم الموجهة للشاعر، إلى قصيدة تتضمن انتقاداً لأمير البلاد كتبها في 2010، إلا أن ناشطين قالوا إن السبب الحقيقي وراء التهمة هو قصيدة سياسية تحت عنوان «قصيدة الياسمين» كتبها الشاعر 2011 على ضوء أحداث «الربيع العربي». وتتضمن القصيدة إشادة بالانتفاضة التونسية التي أدت إلى الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، ويهنئ ابن الذيب في القصيدة تونس وشعبها، ويقول، «عقبال البلاد اللي جهل حاكمها يحسب أن العز في القوات الأميركية»، وفي 25 فبراير 2013 خفضت محكمة الاستئناف الحكم على الشاعر من السجن المؤبد إلى السجن لمدة 15 عاماً، وبعد أن قضى خمسة أعوام وراء القضبان، قالت وسائل إعلام قطرية أن الأمير عفا عنه بـ«شفاعة شيخ قبيلة العجمان خالد بن راكان العجمي». ويصل كتاب «قطر والربيع العربي» إلى نقطة مهمة في ارتباك علاقة قيادات قطر بشعبهم، يقول: «ربما كان انهيار تلك الثقة الشعبية في القيادة القطرية، هو السبب الذي عطل تنفيذ التعهد الأميري في أكتوبر 2011 بإجراء أول انتخابات عامة في 2013، كان هذا التعهد هو ما تم الإعلان عنه وسط ضجة كبيرة بعد 11 يوماً من مصرع الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، في تلك اللحظة التي بدا فيها كل شيء وكأنه قد أصبح بالفعل في متناول قطر».
مشاركة :