في مقابل حالة من الثبات المديد لقرون متطاولة، يواجه الخطاب الديني كما السياسي والاجتماعي أيضاً حالة من التغيرات تعصف بكل شيء تقريباً، وكأن التغير هو الأصل أو القاعدة، والثابت هو الاستثناء، أو لا يكاد يوجد أو يمكن ملاحظته، والحال أن التغير هو الأصل في الحياة والموارد والأفكار، لكن إذا أمكن تثبيت الاستثناء كما حدث في عالم العرب والمسلمين فليس ذلك أصلاً، ولم يعد ممكناً، فالخطاب تعريفاً هو المتغير أو القابلية للمراجعة والتغيير، وبغير ذلك لا يعود خطاباً، كما لا يجعله الثبات مقدساً أو ديناً. لم تعد هذه المقولات أفكاراً أنيقة أو صعبة الفهم والتداول، ففي مواجهة هذا الفشل الذي يغمر الحياة والموارد والمفاهيم والقيم، لم يعد سوى الشك لحماية ما تبقى من عالمنا، وحتى لا يطويه الخواء سوى الشك والمراجعة للبديهيات، فضلاً عن النظريات والفرضيات، لم يعد للمقدس سوى عالم الفرد إن شاء ذلك، بل إن المقدس يخاطر بحضوره إذا شاء أن يواصل التصدي لهذا الانهيار! لأنه حتماً صار جزءاً من الانهيار، ولم يبق للخطاب الديني سوى أن يكون إنسانياً، بمعنى أنه منتج إنساني وليس مقدساً نزل من السماء وان كان مستمداً من الدين الذي يؤمن أتباعه أنه نزل من السماء. ولا بد أن يكون متغيراً وعدم يقيني، فهو بالضرورة، كونه «إنسانياً»، قابل لأن يكون خطأ ويخضع للمراجعة والتغيير والتطوير. وهو نسبي، بمعنى أنه يسعى الى الصواب ويحاول الاقتراب منه ولكنه ليس الصواب المطلق. هذا الخطاب الديني القائم الذي يغمر حياة الناس لم يعد منفصلاً عن الفشل الذي يغمرهم، حتى لو ادعى أنه يواجه التطرف والكراهية، ليس ثمة سوى تطرفات تقاتل بعضها بعضاً، ولم يبق للمتدينين وسواهم أن يميزوا بوضوح وصرامة بين الديني وغير الديني، والثابت والمتحول، والمقدس وغير المقدس. وأن يفكروا في السياق الصحيح للدين في الدولة والمجتمعات، وفي جميع الأحوال يجب الاعتراف بأنه لا يمكن مواجهة التطرف والكراهية والعنف الذي يهدد الحياة والوجود بالخطاب الديني المتداول حتى وإن كان يدخل في مواجهة صادقة وجدية مع الإرهاب. صحيح أن الدول ظلت لآلاف السنين تتشكل حول القلاع والهياكل حتى صار تعريف المدينة في قواميس اللغة بأنها القلعة أو الحصن، لكن ذلك لا يغير من حقيقة أنها قلاع وهياكل تتداعى وتختفي، ليس يصلح لهذا العالم المتغير سوى التغير! وإن لم نقدر على مواجهة الجنون فليس أقل من حرمانه من الحواضن الاجتماعية والموارد الآمنة التي ننفق عليها من الموارد العامة ومن أقوات المواطنين الجائعين والخائفين. في هذا الضبط للإنفاق العام على المؤسسات الدينية يمكن على الأقل حماية الموارد، وتحويل التطرف نفسه إلى مجهود شاق على أهله أو أكثر صعوبة، وتغييب أو تقليل المصالح والدوافع المالية والشخصية في الاتجاهات الدينية، ويمكن أيضاً حرمان الجماعات المتطرفة من الاستفادة من الموارد المتاحة في مؤسسات الدولة التعليمية والدينية والاجتماعية. ولا بأس بعد ذلك في تشجيع ودعم المجتمع الأهلي ليشارك في المواجهة ويتحمل مسؤوليته، ويطور موارده المستقلة وفرصه، فليس أقدر من المجتمعات على مواجهة الأزمة، أو في عبارة صريحة فلا يمكن مواجهة الإرهاب والتطرف والمجتمعات نفسها تسودها الكراهية التي تكاد تذيب الصخر، فما يحدث اليوم في الموصل على سبيل المثال يحول مواجهة المتطرفين إلى تطرف أشد نكاية بالناس وحياتهم وكرامتهم، ما يجعلنا في انتظار بديهي وحتمي لدورة جديدة من العنف والانتقام. * كاتب أردني
مشاركة :