الثقافة في العراق حالياً تعاني من شح التمويل وسرقة المبالغ القليلة المخصصة لها، بدعوى تركيز الجهود على محاربة الإرهاب.العرب محمد حياوي [نُشر في 2017/07/28، العدد: 10705، ص(14)] تُخفى على الكثير من مسؤولي النظام الحالي في العراق، طبيعة عمل الشركات الرأسمالية الكبرى وأنظمتها الضريبية، والالتزامات الأخلاقية المترتبة عليها. وفي العالم الغربي تحاول الدول والحكومات التخلص من عبء تمويل الثقافة برمي تلك المهمة على كاهل تلك الشركات، التي تدير بشكل أو بآخر، السياسة في بلدانها عن طريق الأحزاب الليبرالية اليمينية المقربة إليها. فهولندا مثلاً، يستند اقتصادها بالدرجة الأساس إلى نشاط عدد من الشركات الكبرى وما تدفعه من ضرائب وحجم مساهمتها في الدخل العام، مثل البنوك الكبرى وشركة شل للصناعات النفطية وشركتي هاينكن وأمستل للبيرة وشركة فيليبس للإلكترونيات وغيرها من شركات الاستثمار عبر المحيطات في المستعمرات القديمة كأندونيسيا وجنوب أفريقيا وسورينام وجزر الكناري وغيرها. ويسمح النظام الضريبي في هولندا بتقديم إعفاءات ضريبية عالية جداً للشركات التي تدعم المشاريع الثقافية، أو تخصص جزءاً من مبالغ الضرائب المترتبة عليها لتلك المشاريع، وبالتالي فإن تلك الشركات عندما تدعم الثقافة لا تدفع من نسبة أرباحها الفعلية، بل من هامشها الضريبي وحسب، وينطبق الأمر نفسه على نشاطات تلك الشركات خارج هولندا، خصوصًا تلك التي تعمل في العالم الثالث تحديداً. لقد وقّعت وزارة النفط العراقية عقوداً لمشاريع عملاقة مع شركة شل والشركات الأخرى المتحالفة معها، لتطوير حقول الغاز جنوب العراق، تتجاوز قيمتها العشرين مليار دولار، من دون أن تنتبه لآلية اشتغال النظام الضريبي لتلك الشركات في بلدانها، وبذلك فوّتت على الثقافة العراقية فرص دعم قد تتجاوز ملايين الدولارات للأسف، إما بسبب عدم أهلية موظفي وزارة النفط الذين تعاقدوا مع تلك الشركات، وإما بسبب تجاهل متعمد لقاء تلقي رُشى واستقطاعات خاصّة للمسؤولين في الوزارة. وبحسبة بسيطة، فإن تلك الشركات ستدفع لدوائر الضرائب في بلدانها ما نسبته 21 بالمئة من إجمالي مبالغ العقود البالغة أكثر من عشرين مليار دولار، وهو مبلغ مهول يقارب المئتي مليون دولار، يسمح النظام الضريبي بتخصيص ما لا يقل عن 21 بالمئة منه لدعم النشاطات الثقافية، أي ما يعادل أكثر من أربعين مليون دولار من حجم المبالغ الضريبية المترتبة عليها، تُصرف حصريا في العراق، وتكون الأفضلية فيها للنشاطات الثقافية في مدينة البصرة، كونها ميدان عمل تلك الشركات. كان بالإمكان الاستفادة منها في بناء مسارح ودور سينما وتمويل مهرجانات ثقافية وفنيّة ونشر كتب وتنظيم معارض للفنون التشكيلية، لكن أمية المسؤولين العراقيين الحاليين وعدم إيمانهم بالاستشارة، قد حرما العراق والثقافة العراقية من هذا الحقّ. وتعاني النشاطات الثقافية في العراق حالياً من شح التمويل وسرقة المبالغ القليلة المخصصة لها، بدعوى تركيز الجهود على محاربة الإرهاب، في حين لم يفرّط أغلب المسؤولين الفاسدين في امتيازاتهم ومخصصاتهم المالية، حتى تعطلت الدوائر الثقافية العراقية تماماً الآن وتوقفت عجلة إنتاج الأفلام السينمائية وإصدار الكتب والمطبوعات الدورية وغيرها تحت هذه الذريعة. وفي الغالب، لا يعي أغلب المسؤولين الحاليين في العراق أهمية وخطورة النشاطات الثقافية وحتمية استمرارها، بل إن الكثير منهم لا يؤمنون بها في الحقيقة نتيجة انحدارهم من أحزاب ومرجعيات إسلاموية متخلفة ترى في الثقافة نوعاً من البدع والكفر. وما زال الجميع يتذكر السيِّد كالوست كولبكيان، رجل الأعمال الأرمني الأصل الذي كان يتقاضى ما نسبته 5 بالمئة من قيمة النفط المستخرج في العراق نتيجة وساطته بين الحكومة المحلية وشركات استخراج النفط آنذاك، وكيف أسهم في بناء المتحف الوطني العراقي ومدينة الطب وقاعة كولبكيان للفنون الحديثة وملعب الشعب الدولي وغيرها من الأعمال الخيرية، وكل ذلك من هامش أرباحه وحسب. كاتب عراقيمحمد حياوي
مشاركة :